كاتب سعودي ويشغل حالياً منصب مدير قناة "العرب" الإخبارية
لم تنتصر السعودية على الإرهاب بعد، طالما أن الأسوار العالية والأسلاك الشائكة لا تزال تحيط بكل المجمعات السكنية التي يقطنها الأوروبيون والأميركيون وبعض من العرب الذين يعملون في المملكة، مع حراسة مشددة ومدججة بالسلاح تستقبل كل من يقترب من بواباتها.
قبل عشرة أعوام، وبعد منتصف الليل، فجعت الرياض، بل كل المملكة بأصوات انفجارات مدوية استهدفت أربعة مجمعات سكنية، قتل فيها 26 مدنياً وجرح 170 من القاطنين فيها من مختلف الجنسيات، تبيّن لاحقاً أن هدف المهاجمين كان حصد أكبر عدد من القتلى. عرفنا لاحقاً أن المهاجمين كانوا شباناً سعوديين غرقوا في لجّة من التطرف والغلو والكراهية. كان فعلهم تلك الليلة «بياناً سياسياً» يختصر رؤيتهم هم ومن خلفهم من شيوخ ومحرضين على المملكة العربية السعودية ومستقبلها، فكان الرد غير المباشر في كلمة ملك البلاد يومذاك الراحل فهد بن عبدالعزيز أمام مجلس الشورى بعد أيام قليلة، وألقاها العاهل الحالي الملك عبدالله، وحملت بصماته، وشكلت سيرته بعدما أصبح ملكاً بعيد ذلك بعامين هو: «الانفتاح والإصلاح»، وكان أوضح ما قاله يومها مخاطباً الشعب السعودي: «نحن أيها الإخوة جزء من هذا العالم ولا نستطيع الانفصام عنه». بالطبع كان الخطاب موجهاً أيضاً لأولئك الذين يحملون أفكار انتحاريي المحيا والحمراء، ولكن لا يحملون سلاحهم.
كان اختيار الانتحاريين والذين اتفق على نسبتهم إلى «القاعدة»، واختارت الدولة أن تسميهم «الفئة الضالة»، للمجمعات السكنية التي يقطنها الأجانب، رمزياً واضحاً يختصر كل أفكارهم، ففي تلك الليلة عندما خرج 9 شبان سعوديين من أوكارهم، وقد تمنطقوا بالأحزمة الناسفة وتسلحوا حتى أسنانهم واستعدوا للقتل والذبح، كانوا يعلمون أنهم لن يستولوا على الحكم ويقيموا دولتهم الإسلامية بهذه «الغزوة» المزعومة، إنما كانوا مجرد أدوات ضغط لمنع مضي الدولة في مشروع السعودية الجديدة التي يريدها تحديداً الأمير عبدالله وقتذاك، والنخب المثقفة الساعية إلى سعودية محافظة متمسكة بالدين، الذي هو انتماؤها السياسي أيضاً، ولكنها منفتحة على العالم وحديثة متجددة، تبتغي لشعبها رخاء وحرية وسعادة. إنها المعركة نفسها التي خاضها مؤسس المملكة في بدايات التأسيس، وواجهها بحزم وشدة. كانت معركة وجودية ولا تزال، ولو سقطت «التجربة» الجديدة وقتذاك في يد ذلك التيار المتشدد الرافض للانفتاح لانهارت الدولة والوحدة والمشروع الإسلامي الذي قدمه عبدالعزيز آل سعود، فالبديل كان يمكن أن ينتصر، ولكنه كان سيعجز عن الحكم، فهو لا يملك أدواته، لأنه يجيد القوة والقتل فقط.
وحيث أن الدولة في السعودية هي الحكومة والمعارضة والحزب والممثل للشعب -حتى الآن- وبالتالي عليها أن تستشعر المسؤولية الكاملة حيال الوطن والمواطن، لذلك يمكن النظر في تلك الكلمة التي تلت العملية الإرهابية بخمسة أيام فقط، على أنها بمثابة المشروع السياسي للدولة، لتجديد خلايا الدولة وإعادة التأسيس لها، وهو ما قام الملك عبدالله بتحقيق الكثير منه خلال العقد الماضي (احتفلت السعودية قبل أيام بالذكرى الثامنة لاعتلاء الملك عبدالله العرش)، ففي تلك الكلمة اعترفت الدولة بالحاجة إلى الإصلاح السياسي -نعم لقد استخدم الملك هذا المصطلح- والقبول بفكرته والإعلان عن تقديرها وتفهمها لوجود إصلاحيين، ووعدت بتوسيع مساحة «المشاركة الشعبية»، وهو المصطلح البديل للديموقراطية في السعودية، ومرة أخرى التأكيد على أن السعودية لا يمكن أن تتبنى سياسة انعزالية، «إذ لا يمكن أن نسكن والعالم يتغير» بحسب ما جاء في الكلمة. وكم جرى من تغيّرات في العقد الأخير، سياسية وتقنية واقتصادية، فكيف لو نجح ذلك التيار الذي هو أكبر من «القاعدة» في فرض أجندته الانعزالية على المملكة في العام 2003، فتراجعت التنمية وأغلقت منافذ التعبير، وتوغلت مدرسة الرأي الواحد! هل كان ممكناً وقتها للدولة أن تصمد في وجه أعاصير الربيع العربي؟
لم يتحقق المشروع الإصلاحي الذي وعدت به الدولة عام 2003 بالكامل، اعتراه النقصان، وبخاصة في مسألة حسن التدبير الحكومي، كمكافحة الفساد والتربح والهدر وتعثر تنفيذ المشاريع، وبطء حل مشكلات الإسكان، وتآكل الطبقة الوسطى، ومكافحة الفقر والبطالة وسوء الخدمات، وذلك لتأخر الدولة في اعتماد أدوات «المكاشفة والمساءلة والمحاسبة»، وهي الأدوات التي تحاول أن تطبقها من خلال مؤسسات رقابية، كديوان المراقبة العامة وهيئة مكافحة الفساد، بل حتى القضاء السعودي الذي نشط أخيراً في محاكمة مرتشين وفاسدين بما في ذلك قضاة وكتاب عدل، وهي سابقة لم يعهدها المواطن، ولكن بقدر اعتماد هذه الأدوات صدقاً، يتحقق التحسن في حسن التدبير.
الأخطر من ذلك، أن أولئك القوم الذين وقفوا يفركون أيديهم، ويغمغمون في كلامهم، وهم يشهدون بضعة شبان سعوديين يفجرون أنفسهم ويقتلون الأبرياء في تلك الليلة قبل 10 أعوام، ثم ما تلا ذلك من عمليات وجرائم، حتى تمكنت الدولة «أمنياً» منهم، لا يزالون واقفين يفركون أيديهم، يتربصون بالدولة ومشاريعها الإصلاحية، فيعبّرون عن أنفسهم تارة برفع قميص «المعتقلين»، وتارة بوصف الإصلاح والبناء بالتغريب والخيانة، وثالثة بإشاعة أن البلاد تتعرض لهجمة إلحاد، ورابعة وخامسة…
هؤلاء هم الفكر الذي نخشاه، ونشعر به يتماهى بخبث مع حديث الصالحين والغيورين على الدين. لا يوجد سلاح هنا، ولا توجد أحزمة ناسفة، ولكنه فكر يصنعها متى غفلت عين الأمن الساهرة، ما يجعل الدولة تتردد أن تزيل الأسوار العالية والأسلاك الشائكة، وعندما تُزال نستطيع أن نقول إننا انتصرنا على الإرهاب، وإننا أصبحنا بالفعل دولة طبيعية حيث يعيش الناس من دون أسلاك شائكة حول بيوتهم.
المصدر:صحيفة الحياة