كاتب سعودي
في القرن الحادي والعشرين، بات العالم يعي اختلافه، ويعي وجود الاختلاف لدى الشعوب والأفراد، في التكوين الجيني، واللغات، والثقافات والأديان، ويعد الحوار أهم طريقة لقبول هذا الاختلاف، ولا يعني الحوار اسماً بديلاً لـ”إدارة المعركة”، فالرغبة في الحوار لا تتحقق من دون التخلي عن الوثوقية الفكرية والأحكام المسبقة كشرط لازم لشيوع الدرجة الدنيا من التسامح والتأكيد على الحق في الاختلاف، دون أن يكون الفرد أو الشعب نسخة مكررة عن الآخر.
هنا يمكن التأكيد على أنه لا أحد يستطيع أن يفرض نفسه على العالم من حوله، إلا أن هناك من يرى أنه الأفضل، وبالتالي يعتقد أن له الحق في أن يكون وصياً على فكرة الاختلاف ذاتها، سواء أكانت هذه الفكرة متعلقة بالوطنية أو المعتقد.
وليس معنى أن يكون الإنسان مختلفاً، أن يكون “أفضل” أو “أقل” من غيره؛ فالاختلاف قيمة إنسانية حقيقية ليست سلبية، ولولا الاختلاف لربما انتهت الثقافات البشرية التي يميزها التنوع والتراكم البنائي؛ فبقاء ثقافة ما فاعلة ونشيطة ومتوارثة، هو رهن بقدرة أفرادها على استثمار الاختلاف والتنوع كوسيلة للتطوير والابتكار والتأثر والتأثير الإيجابي.
ولذلك لا يمكن حتى لخلايا الجسد أن تنتخب نفسها لتكون الأفضل من بقية الخلايا، وإلا تحول الأمر خللا جينيا، وبالتالي إلى مرض عضال يصعب برؤه، وبالتالي أول من يموت هو تلك الخلايا التي اعتقدت أنها الأفضل، ولذلك لا بد بين البشر من وجود حق يكفل الاختلاف، ينطلق من رؤية موحدة للعلاقات بين الناس ويرعى المصالح المشتركة بينهم، ويحمي القيم الإنسانية المثلى التي جاءت بها الأديان القائمة على الحرية والتسامح والعدل والمساواة، وهذا ما يستلزم المحافظة على الاختلاف كقيمة طبيعية يجب ألا تستنكر، بل يجب حمايتها من مظاهر العنصرية والتعصب والإلغاء.
والثقافات تستوعب حق الإنسان في أن يكون مختلفاً عن الآخرين، ولكن البشر لا يستوعبون ذلك، وربما كان الدافع الأول لهذا الرفض هو المصالح واحتكارها، فبرغم أنه ليس من حق مجموعة من الأفراد مصادرة حقوق الآخرين في الاختلاف عنهم، إلا أن استخدام الإكراه والإجبار والاستعباد-لا سيما للضعفاء- سمة بشرية يمكن ملاحظتها في تاريخ كل المجتمعات البشرية، ولم يتخل عنها البشر إلا بعد الخبرة التي اكتسبوها من التحضر وتشريع القوانين، وإيجاد حد أدنى للتعايش بينهم، ولا سيما أن الاختلاف ليس مبرراً لوجود الصراع والقمع والكراهية، وهي أدوات تستخدم للسيطرة على قيمة الاختلاف من أجل تأمين المصالح واستمرارها، فنزوع الأفراد والجماعات إلى التسلط هو رغبة في فرض الهيمنة والوصاية على العقل الجمعي، للتحكم بقيمة الاختلاف الذي يشكل خطراً على النمط الواحد.
بينما الاختلاف هو قيمة إنسانية عليا، لو تأملها الإنسان قليلاً، فقبول المختلف ضمن الحدود التي لا تلغي أحدا ولا تجعل فكراً يطغى على فكر آخر، بل إن أولى مراحل التطور الثقافي، هي قبول المجتمع الواحد للمختلفين عنه، وعادة ما يكونون الشباب بقيمهم ودوائرهم الثقافية الخاصة، ولو استطاع البشر فهم الأبعاد الإنسانية للاختلاف لما ظهرت العنصريات البغيضة من جهة، ولما انشغل الإنسان بتدمير ذاته الإنسانية من جهة أخرى، لذلك فإن الحرص على استمرار القيمة الواحدة هو بداية للانغلاق الذي يمثل هذه النهاية، والمنغلق يحرص على محاربة القيم المختلفة عنه، على الرغم من أن هذه القيم المختلفة هي استمرار لوجوده أصلاً!
إن التنوع الموجود في الطبيعة لا يكون ثرياً وإيجابياً إذا لم يستمر، وإذا لم تجد الكائنات حداً مناسباً من التوازن الذي يصنعه وجود الاختلاف، الذي يقوم بين معظم الكائنات غير العاقلة على الصراع الأبدي، إلا أنه لدى الإنسان نتيجة مختلفة، حيث إن الحياة تستمر بالتعايش، وتضطرب بالصراعات والحروب، ولذلك تفكير الإنسان في هذه الصراعات المدمرة جعله يصل إلى الحد الأدنى من التسامح المفترض، غير أنه كلما انحسرت فرص الإنسان في رعاية مصالحه، زادت نزعته إلى السيطرة وإلغاء الاختلاف.
المصدر: الوطن أون أونلاين