في ذكرى رحيله

آراء

خاص لـ هات بوست: 

في منتصف الثمانينات من القرن الماضي كان الدكتور المهندس محمد شحرور أستاذاً مهيباً في جامعة دمشق، يغلب عليه طابع الجد، تتحول معه دروس هندسة ميكانيك التربة، إلى دروس في الفلسفة والأخلاق، لتخلص بعد فصل دراسي إلا أن القيم الإنسانية أكثر أهمية لدى هذا الأستاذ من أي أمر آخر.

وبعد أعوام قليلة تجده يؤلف كتاباً يحدث أيما ضجة في دمشق، بعيداً كل البعد عن الهندسة وأحوالها، عنوانه “الكتاب والقرآن”، هاجمه القاصي والداني، وحرّم “مشايخ” الشام قراءته، كونه أشبه بالسحر، وفيه من “الكفر” ما تقشعر له الأبدان، وهذا كان كافياً ليتشجع كثير من أبناء جيلي على قراءته.

عن نفسي وجدته كتاباً صعباً، يكسر القوالب المعتادة، وأولها أن كتاب الله لا يحتاج لفهم خارج عن شرح المفردات الموجود في الحواشي، بل يمكن لي ولغيري أن نسعى لفهمه، بل واجب علينا، لا أن نتلوه كطلاسم وألغاز.

ثم أن الدين يجب أن يتفق مع العقل، ولا يتعارض معه، وكنت كأقراني قد اعتدنا على قبول كل ما قيل لنا على أنه الإسلام، كمسلمات غير قابلة للنقاش.

ورغم أن الضجة التي أثارها الكتاب تمركزت في جلّها على موضوع لباس المرأة، فأشيع عنه أنه يروج للتعري، إلا أن ما استوقفني هوموضوعان: القضاء والقدر من جهة، إذ لطالما أخفيت تساؤلات لم أجرؤ على التصريح بها، من قبيل جدوى حسابنا في الآخرة إن كان الله قد حتم علينا أعمالنا، وعن العدالة المفقودة في أمور كثيرة، وموضوع قصة الخلق من جهة ثانية، فلم يكن عقلي يستسيغ ما قدمته الروايات الدينية من نوم آدم تحت الشجرة، وخلق حواء من ضلعه، وغوايتها له ليأكل التفاحة، وتحميلها الخطيئة، وكل تلك الترهات، لأقرأ تفسيراً للقرآن يتوافق مع آخر ما توصل له العلم، ورغم أني وجدت إجابات منطقية في “الكتاب والقرآن” إلا أن قبولها والتخلي عما رسخ في ذهني لم يكن بتلك السهولة، لكن الغلبة للعقل.

ثم تتالت الكتب، وتتالت معها المفاهيم المضاءة، لتخلص أن الإسلام هو الإيمان بالله والعمل الصالح، وأنه دين الناس جميعاً إلا المجرمين، وأن الله تعالى هو وحده صاحب الحق في التحريم، والمحرمات معدودة اتفق معظم أهل الأرض على نبذها، بينما التزام القيم الإنسانية هو الأساس في رضا الله عنا، وأن كتاب الله من حي إلى أحياء وعلينا قراءته وفق سقفنا المعرفي، لا وفق فهم من سبقونا، وبالتالي سنفهم ما جاء به بطريقة مختلفة تناسب عصرنا، وهذا هو الإعجاز الذي يحمله.

وتدريجياً سنرى مع مؤلفات محمد شحرور ومحاضراته كيف أن الحرية هي كلمة الله العليا، وأنه جل وعلا خلقنا أحرار نطيع ونعصي بملء إرادتنا، وهذه هي المسؤولية التي حملناها بموجب نفخة الروح، وكُرمنا خلالها بإنسانيتنا، وسنفهم أن سبيل الله هو سبيل دفاعنا عن حرية كل إنسان بآرائه ومعتقداته مهما كانت، وسنعلم أن الله خلقنا مختلفين، وعلينا احترام اختلافاتنا هذه.

وسيشرح لنا من كتاب الله، كيف استطاعت الرسالة المحمدية إحداث قفزة نوعية في خط سير التاريخ، لتدشن عصر المساواة، وتضع حجر الأساس لأمور عدة، احتاجت الإنسانية قرون لتصل إليها، وكيف يمكن للإسلام أن يشكل حلاً، إذا ما علمنا أن الناس مخولون بالتشريع وفق ما يرونه مناسباً لمجتمعاتهم، وحدودهم واسعة، يمكنها أن تقبل ضمنها كل ما ارتأته البرلمانات إلا فيما ندر، وأن العلاقات بين الدول تقوم على التدافع السلمي، وأن القتال كره، وضمن شروطه ليس إلا.

أما علاقتنا مع رب العالمين فهي علاقة فردية خاصة، هو وحده معني بها، يغفر ذنوبنا ويقبل توبتنا، وهو الرحمن الرحيم الذي رحمته وسعت كل شيء بينما عذابه محدود.

لا يمكن تلخيص المشروع الذي قدمه محمد شحرور بمقال كهذا، فهو منهج متكامل، لم يكتف بنقد الموروث، بل قدم بديلاً عصرياً مقبولاً، جديراً بالإسلام كرسالة عالمية خاتمة، لكن للأسف هذا المشروع جوبه بكل قوة من اليمين واليسار، فهؤلاء رأوا فيه مساً بمواقعهم بما فيها من قداسة، وأولئك رأوا فيه ليّاً للنصوص لتنتج ما هو عصري ومتوافق مع العلم.

قد تتفق مع الراحل أو تختلف معه، وهذا حقك الذي طالب هو باحترامه، لكن جهوده المبذولة طيلة خمسين عاماً في تدبر كتاب الله جديرة بأن تثمن عالياً، كذلك سعيه لإلقاء حجراً في مياه عقولنا الراكدة لعلها تناقش وتتدبر كل ما اعتبرته مسلمات.

منذ أيام مرت الذكرى السنوية الثانية لرحيله رحمه الله، وسط اهتمام عربي متواضع لا يتعدى بعض صفحات التواصل الاجتماعي، ولا يليق بمفكر مثله، وإذ لطالما طالبنا هو بعدم الوقوف عند ما قدم بل تجاوزه نحو الأفضل، يبدو أننا ما زلنا نسير ببطء في طريقه، لعل الأجيال القادمة تحقق حلمه.