كاتب عمود يومي في صحيفة الوطن السعودية
في الجملة الأولى من تقديمه لمناظرة الأخوين الكريمين: الشيخ الدكتور محمد النجيمي، والمفكر الأديب محمد زايد الألمعي، وفي برنامجه الصاعد المثير: “هاشتاق خليجي”، طرح الصديق الأثير، إبراهيم الفرحان سؤالاً جوهرياً عن صراع القطبين: من صراع المثقف والداعية.. من ينتصر؟ سؤال جريء لا يمكن طرحه بمفردة: “صراع” إلا في مجتمع منقسم منفصم؛ لأنني مؤمن تمام الإيمان أن تقابلية “الداعية والمثقف” يجب أن تكون في الأصل تقابلية تكاملية تطابقية في الأهداف، لا تناقضية تباينية كما هو الحال ـ للأسف الشديد ـ في المجتمع السعودي.
ومن وجهة نظري الخاصة فإن “الانتصار” محسوم سلفاً، وبنتيجة ساحقة لصالح الداعية على حساب المفكر والمثقف؛ لأن التركيب الهيكلي لبنية الثقافة المجتمعية المحلية قد مهدت طريقاً مفتوحاً للمنتصر، بالتأهيل وبالحسابين: الرسمي والمجتمعي، وأيضاً عبر الصندوق البريدي الأسود “Black mail” الذي جعل من المثقف والمفكر في المجتمع السعودي فكرة منبوذة تستأثر بآلاف رسائل التخويف وعشرات التهم الكاذبة التي ابتدأت قبل أربعين سنة بمصطلح “الماسونية” وتنتهي الآن بتهم التغريب والعلمنة.
ومن الآن يجب علينا أن نعود إلى الجذر المصطلحي في تعريف الفارق بين “الداعية والمثقف” كي يكون المتلقي على وعي تام وشامل بتجاذب الأطروحات التي تتنافس عليه.
المثقف هو من يحلل ومن يستشرف، وهو من يقرأ الحاضر من أجل قراءة ودراسة التنبؤات المستقبلية لما قد يحدث أو يكون “غداً” من القادم في حياة المجتمع.
وفي المقابل فإن “الداعية” هو من يعيد اجترار وقولبة ما كان ناجزاً ومنتهياً من أدبيات التراث التي حسمها من قبل مئات المؤلفين عبر قرون خلت في آلاف الكتب التي يحاول “الداعية” مجرد ربط متونها بهوامشها وإعادة قراءة ما سبق أن “قُرئ” في الأصل.
هنا تكمن طبيعة الاختلاف بين المثقف والداعية: المثقف جريء يقرأ الحاضر من أجل حتمية وصيرورة المستقبل، بينما الداعية ـ ومعه كامل الحق ـ خائف على المجتمع كيلا ينزلق في هذه الحتمية وهذه الصيرورة.
ومع هذا، فإن كل ما سبق لا يجيب عن السؤال: كيف انتصر الداعية في هذا الصراع مع المثقف؟
هناك جواب قصير، وآخر طويل، لمعرفة هذا التمهيد الطويل الذي قاد إلى هذه النتيجة:
الجواب القصير تختصره ـ بكل امتياز ـ تقابلية “النجيمي والألمعي”، وهما المنحدران أصلاً من جبلين متقابلين، ومن بذرة مجتمعية واحدة، لكن أحداً لم يقرأ مجرد مئة صفحة من أشعار محمد زايد الألمعي التي تمثل وحدها فورة مجتمعية شمولية قرأت بعمق كل حقوق الفرد مع المجتمع، مثلما كان مع الثلاثة الآخرين: “محمد الثبيتي، ومحمد جبر الحربي، وعبدالله الصيخان” بذرة الفكرة التنويرية بكل شجاعة لم يتدثرها كثر ذات زمن.
وخذ أيضاً، من الجواب القصير كيف استُقبلت بالتحديد أطروحات هؤلاء السفراء المفكرين المبدعين الأربعة، وكيف تم قمعهم فكرياً وثقافياً في كتاب العزيز الأثير: الدكتور عوض بن محمد القرني عن “الحداثة في ميزان الإسلام”، وكيف استقبل هذا الكتاب كثورة ثقافية في زمنه.
لم يقل أحد في زمنهم إن محمد زايد الألمعي ورفاقه الثلاثة كانوا بذرة تبشير بالحقوق أو بأصوات الحرية، ولكنهم بتهمة كل الدعاة “ألبسوا” كل ألقاب التخوين والتبعية.
هنا سقط الداعية في بؤرة الصراع مع المثقف، رغم أنهما يشتركان معا في نبل الأهداف من أجل المصلحة المجتمعية، وهنا سأعترف: أن الصديقين محمد زايد الألمعي وعوض القرني، كأمثلة، أول بذرتي نور وتنوير في تاريخ مدينتي، ولكن من سيقنعهما معاً بنبل الأهداف وتطابق التحالف!؟
وفي الجواب الطويل المقابل: كيف حسم هذا الصراع إلى الانتصار ما بين الداعية وبين المثقف؟!
انتصر الداعية في هذا الصراع مع المثقف لأن الداعية يحظى بخطاب ترويجي هائل، مهدت له أرضية مجتمعية هائلة.
انظر مثلاً إلى أنظمة الجامعات وثورة مخيمات الصيف وتحالف المال العام والخاص التي انحازت برمتها إلى خطاب الداعية على حساب انتصار المثقف.
خذ مثلاً، أن محمد زايد الألمعي لم يتحمل بضعة أشهر في رئاسة مجرد ناد أدبي رغم اسمه الضخم حين طردته روائح المؤامرة، وخذ في المثال الطويل أن أتْباع مجرد ثلاثة دعاة على “تويتر” يصلون إلى خمسة عشر مليون متابع، بينما يبحث الألمعي عن خمسة آلاف متابع، رغم كل هذا التاريخ؛ إنه تحالف المال مع الداعية.
المصدر: الوطن أون لاين