الدوائر السياسية التقليدية في أوروبا تعيش حالة ذهول كبرى وهي تراقب المواقف السعودية الصارمة من كل تدخل في شؤونها الداخلية ومن كل المواقف السياسية التي تخالف أبسط أبجديات العلاقات المتكافئة بين البلدان؛ الموقف من ألمانيا والموقف من كندا تمثل أبرز الشواهد على الأداء السياسي السعودي الجديد وتمثل أيضا دليلا على أن ثمة ذهنيات سياسية أوروبية توقفت أفكارها ورؤيتها السياسية عند زمن الحرب الباردة والمعادلات السياسية المألوفة، التي تنظر لدول العالم الثالث باعتبارها قاصرة حضاريا وإنسانيا.
في الواقع أن هذا التصنيف (دول العالم الثالث) هو أيضا من الماضي، وأول من استخدمه كان الباحث الفرنسي الفريد سوفيه العام ١٩٥٢، في إشارة إلى البلدان المتراجعة اقتصاديا والتي ليست جزءا من النهضة الصناعية والتي تعتمد في اقتصادها على الدول الاستعمارية.
اليوم لا يكاد يصدق أي من هذه الأوصاف على كثير من دول المنطقة وعلى رأسها دول الاستقرار: السعودية، الإمارات، وغيرها، فلا اقتصادها معتمد على المستعمر ولم يحدث أن كانت عرضة للاستعمار أصلا، إضافة إلى أن ما تشهده من ثورات حقيقية تنموية واجتماعية وما لديها من قوة اقتصادية جعلتها ضمن مجموعة العشرين، وما تحمله اليوم من تطلع وعمل نحو المستقبل يجعل من المستحيل أن تقبل الإملاءات أو المواقف غير الراشدة سياسيا، كالتي جاءت في تصريح وزير الخارجية الألماني السابق أو التي فجرت الأزمة الكندية.
التصريحات الأخيرة للوزير الجبير تعني ألّا شيء ممنوعا على النقاش مع المملكة وفق الأعراف الدبلوماسية والسيادية، لكن اتخاذ قضايا المملكة كورقة لعب سياسي وصراعات داخلية وإطلاق تصريحات تفتقر للباقة الدبلوماسية أمر لا يمكن قبوله في السعودية الجديدة.
يكمن أبرز أسباب ذلك في أن ما نعيشه اليوم وما نخطط له مستقبلا يحتاج إلى كثير من الخطوات والمواقف التي يصعب استيعابها في بعض الدوائر السياسية في الغرب؛ حقوق الإنسان مثلا لا يمكن إطلاقها كعنوان عريض فضفاض أمام حالات ومواقف داخلية في المملكة أو غيرها، الحريات والحقوق هي أيضا من أكثر القيم التي ترتبط بالواقع الثقافي والاجتماعي لكل دولة ولا يمكن التعامل معها بصفتها نموذجا واحداً عابرا للقارات.
اليوم فهمنا للسيادة أكثر تحضرا ووعيا وأكثر قوة أيضا، وكما تحتاج التحولات اليومية في السعودية إلى بناء صوت جديد ومختلف في الداخل وفي الإقليم فهي تحتاج كذلك إلى صوت مختلف في الخارج أيضا وفي السياسة الدولية، وما نقوم به اليوم مع حلفائنا في اليمن مثلا يمثل حفاظا على أمن العالم ومواجهة لأكبر الأخطار الحضارية المتمثلة في الميليشيات وجماعات العنف والإرهاب، وكما استوعبت ألمانيا ستستوعب كندا قريبا.
ألطف ما في حديث الوزير الجبير حينما سئل عن الأزمة مع قطر قال: إنها ليست أزمة، نحن فقط لا نريد أن تكون لنا علاقة معهم.
المصدر: عكاظ