كاتب إماراتي
كنت في السيارة مع صديقين يكبرانني في السن، وكنتُ مُرهقاً من المذاكرة والإعداد لامتحانات الثانوية العامة، فقلتُ لهما: «عندما تنتهي الامتحانات سيسقط جبلٌ من فوق كتفي، ومهما كانت الأيام المقبلة ثقيلة فإنها لن تكون بثقل هذه الأيام». فضحك أحدهما وقال: «صدّقني، كل ما هو قادمٌ سيكون أثقل من هذه الأيام». فكنستُ كلامه بيدي في إشارة إلى أنني غير مقتنع به.
واليوم لا تمضي سنة دون أن أتذكر ذلك الحوار عدة مرات؛ فلقد صَدَقتْ توقعاته، وصارت أيام الثانوية العامة، مقارنة بحياتي الآن، أقل همّاً وتحدياً. كان همّي محصوراً في المذاكرة، ويمكنني أن ألخص قلقي حينها في جملة «تافه» دون الحاجة إلى تفصيل. ما زلتُ لا أحب المدرسة -سأظل أعترف بهذه الحقيقة أمامكم كثيراً- ولا أتمنى العودة إلى تلك الأيام فلكل مرحلة من الحياة لذّتها التي تأتي من التغلب على العراقيل وتحقيق نجاحات بسيطة، ولكنني أتمنى أحياناً أن أعود إلى المزاج الفكري البسيط الذي كنا نتحلى به أنا وأترابي في تلك الفترة. فلقد كنتُ لا أكفّ عن قراءة القصص والروايات، ثم بدأتُ بقراءة كتب علي الطنطاوي، ثم المنفلوطي والرافعي ونجيب محفوظ وطه حسين وغيرهم، وكنت لا أقرأ إلا قبل النوم، ولا أتصل بأصحابي لأسألهم عن شيء إلا قبل النوم أيضاً. ولا أُنكِرُ أنني مررت بمرحلة عشقتُ فيها كُتب السياسة ومجلاتها، ولكنني تخليتُ عنها عندما انخرطتُ في العمل الإداري. وكنتُ أقرأ في الإدارة ليل نهار، وأتذكر أنني كنتُ أمسك بفرشاة الأسنان -قبل النوم- في يدٍ وبكتاب في الإدارة في اليد الأخرى. وفي عام 2004 سافرتُ مع الأصدقاء إلى لبنان لأول مرة، وأعترف أنني لم أكن أستسيغ جبران حتى عام 2000 عندما غضب مني أخي عارف، الذي أخرَجَ برنامجنا الرمضاني «ما قل ودل 3»، حيث اتهمني حينها بأنني لا أتذوق الأدب، ثم أصرّ على أن أقرأ قصّة «الأجنحة المتكسرة» التي قادتني إلى عشق جبران. وعندما سافرنا إلى لبنان كان أول عمل قمنا به أنا وعارف هو زيارة متحف جبران وشراء مجموعته كاملة. ثم تعلقتُ بميخائيل نعيمة، وصرتُ أتبادل مع عارف كتبه، وعندما يقرأ أحدنا شيئاً من كتاباته أو كتابات جبران فإنه يرسله للآخر في رسالة نصية قبل النوم.
ثم كنتُ، وما زلتُ، أحتفظ بدواوين لشعرائي المفضلين، كالمتنبي وأبي فراس وأبي نواس وأبي تمام والبحتري والفرزدق ونزار، إلى جانب رأسي، فلا أنام حتى أقرأ قصيدة أو ربما أكثر. ومعظم اطلاعاتي وقراءاتي تكون قبل النوم. وعندما أشاهد فيلماً فإنني أفعل ذلك قبل النوم، وعندما أتذكر شخصاً أحبه فإن ذكراه تزورني قبل النوم، وعندما أستمع إلى موسيقاي المفضلة فإنني أفعل ذلك قبل النوم أيضاً. يا إلهي، يبدو أن الأشياء الجميلة لا تراودنا إلا قبل النوم مباشرة.
فحين أقرأ مسوّدات مقالاتي، التي أكتب فيها تاريخ ووقت الكتابة بالضبط، أجد أن غالبيتها العظمى خُطّت قبل النوم، وعندما أتذكر متى صوّرنا حلقات ما قل ودل فلا أتفاجأ عندما أجد أنها كانت مساءً، وعندما أقرأ عن الأدباء والشعراء تَكثُر كلمة «يتسامرون» وتتكرر كثيراً في حكاياتهم.
كتبتُ هذا المقال قبل النّوم، ولذلك آثرتُ ألا أرتّب الكلام فيه أو أُنمّقه، وأحببته غير مترابط ومُشتَتاً لأنه وُلِدَ في الساعة الثانية ليلاً -لا أدري لماذا يقولون الثانية صباحا!- وهذا أحب عمل أقوم به في حياتي؛ أن أكتب ليلاً. كنت أقرأ عن الطقوس الغريبة التي يمارسها الكُتّاب قبل البدء في الكتابة، فوجدتُ أن منهم من يشم تفاحة، ومنهم من يغسل الأطباق، ومن يكتب واقفاً وهو ينظر من نافذة غرفته، أما أغربهم فكان يخلع ملابسه ويتسلّق شجرة حتى يأتيه الإلهام، ويُقال إن هيوغو كان من أولئك، ولكنني لستُ متأكداً من هذه المعلومة. إلا أن كثيراً من الكُتّاب كانوا يكتبون مساءً، ومعظم الولادات تحصل مساءً، وكل الأعراس تقريباً في بلادنا تُقام بالليل. ما أروع المساء كيف يفصل بين الأشياء التي نحبها حقاً وبين التي نظن أننا نحبها! يبدو أننا في الصباح نقوم بالأشياء الضرورية، أما في المساء فإننا نمارس الأشياء الجميلة.
لا شيء مفيداً في هذا المقال، أعلم، ولكن دعني أعوضك عن الدقائق التي أضعتَها في قراءته بدعوتك للتفكّر في الأشياء التي تفعلها قبل النوم، والأشخاص الذين تتذكرهم قبل النوم، ثم دوّنها في دفتر صغير واحرص على ألا تُفرّط فيها أو فيهم، لأنها ولأنهم من سيبقون لك بعد انقضاء سنوات العمر. كل موظف يتقاعد، ولكن الكاتب، والرسّام، والعازف، والمبدع عموماً لا يتقاعد، بل كلما تقدم به السن صار أكثر قيمة. ابحث عن الإبداع في حياتك، وستعلم ما كان ينقصها حتى تكون جميلة. تصبحون على خير.
المصدر: صحيفة الشرق