كاتب سعودي
تغلغلت ثقافة التشدد “الديني” إلى العالم “المدني” وأخذت العنصريات أشكالاً متعددة قد تؤدي إلى طمس الهوية المدنية للمجتمع والدولة، كما حصل في أفغانستان وإيران، إضافة إلى بعض الدول العربية
من يتتبع التاريخ البشري، يجد أن فكرة “قداسة الحرب” ظلت قرونا طويلة مبررا للحروب التي تشنها الجماعات والدول من منطلق “أخلاقي”، على الرغم من أن هذا المنطلق لا يكون نابعاً بالضرورة من فكرة الدفاع عن النفس والمقدرات والتاريخ، بقدر ما يكون نابعا عن أسباب سياسية واقتصادية بحتة، ظلّ القادة السياسيون والدينيون يضفون الزخم اللازم لهذه القداسة على الحرب بطرق متعددة.
لقد عاش العالم حروبا دينية كثيرة في مختلف قاراته، لا سيما في أوروبا وآسيا وأفريقيا، ومنذ بداية القرن السابع عشر الميلادي تقريبا، فقدت الحروب الدينية جزءا من هالتها المقدسة التي كانت تضفى عليها، إلا أن هذه القداسة استمر استخدامها لرفع همم المقاتلين، بمعنى أن يتم توظيف واستثمار عامة الناس لخدمة الأهداف غير المعلنة التي لا يكونون واعين بها، لذا يكون الضحايا غالبا هم من أتباع الأديان والطوائف؛ مما يعزز الشعور الديني والطائفي في هذه الصراعات، التي تجري فيها إراقة الدماء وفقا لهذا الشعور المقدس.
ومن ذلك؛ الحروب العديدة الدامية التي عاشتها أوروبا المسيحية ومختلف طوائفها، وكذلك الصراع المستمر بين المسيحية واليهودية والإسلام من جهة، وبين الطوائف داخل نطاق كل دين من هذه الأديان من جهة أخرى، بالإضافة إلى استمرار الحروب المقدسة في الأديان غير السماوية، ومنها ما حدث عبر التاريخ من صراعات بين أتباع الأديان والثقافات في منطقة الشرق الآسيوي، كالصراع بين السيخ والهندوس والمسلمين وغيرهم من أتباع الطوائف الأخرى.
وتبرز مثل هذه الحروب والصراعات ليس بين أتباع الطوائف فقط بل تبرز حتى في الحروب الدولية كما تم خلال الحرب الأميركية السوفيتية في أفغانستان، حيث انخرط معظم العرب المسلمين في هذه الحرب باعتبارها جهادا وبالتالي حربا مقدسة، غير أن الذي قلب ظهر المجن هو الاستمرار في تحولها من حرب مقدسة إلى حرب سياسية وصراعات على النفوذ بين الصراع بين الفصائل الأفغانية والأفراد المنضوين تحت ألويتها، بل إن فكرة قدسية الحرب استمرت بالوجود، ومن ذلك ما شهدته جمهوريات يوغسلافيا السابقة، حيث تحمل أحداث “التطهير العرقي” بعدا دينيا، وهذا ما حصل حينها، ولكن اللافت هو استمرار فكرة الحرب المقدسة في ظل وجود الدول المدنية التي تقر العلمانية ولا تنحاز لأي طائفة دينية ضد أخرى بقوانينها وأنظمتها، كما هو الحال في دول أوروبا والأميركتين وأستراليا وغيرها، وبعض دول آسيا التي تبرز تكون الغلبة فيها للدولة المدنية، كالهند على سبيل المثال، على الرغم من استمرار الحروب المقدسة الطائفية التي تشنها الجماعات الدينية في بعض الأقاليم كما حدث سابقا ضد المسيحيين في تيمور الشرقية، ويحدث اليوم ضد مسلمي الروهينجا في بورما، غير أن العالم صُدم في عام 2003 بإعلان الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن بأن الحرب التي قادتها الولايات المتحدة على العراق هي حرب صليبية (مقدسة)، وحتى على مستوى العالم الإسلامي، فها هي إيران وأتباعها السياسيون يشحنون الطائفية وفق مبرر الدفاع عن “العتبات المقدسة”!
إن وصف الحروب العسكرية-ذات المنطلقات الاقتصادية والسياسية- بالتقديس يؤجج الشعور لدى أتباع الأديان أو الطوائف الأخرى بفعل آخر مقدس، وبالتالي سيكونون وقودا لحروب (كافرة) يؤمنون أنها مقدسة، وهكذا تسير العجلة، ولهذا فإن السؤال الملحّ الذي يمكن أن نطرحه اليوم هو: لماذا تبرز فكرة “الحرب المقدسة” في زمن الدول المدنية الحديثة أكثر من ذي قبل وبشكل معلن؟
والتأثير السياسي لهذه المنطلقات الدينية عميق وخطير، ولا سيما مع بروز ظاهرة “الإرهاب” التي يعيشها العالم وتستحق المزيد من البحث والتأمل والاستقصاء، لكونها أصبحت ظاهرة “استثمارية” سياسية واقتصادية واستراتيجية، وجدت أرضا خصبة لنموها بعد طغيان الجوانب المادية والاستهلاكية على الفرد في العالم، وظهور الأزمات الاقتصادية المتعاقبة-في ظل الزيادة السكانية العالمية- كمعضلة كبرى لدى الأفراد والمجتمعات والدول، وبالتالي تُفسر مشكلات المجتمعات عامة الناس بأنها نتيجة البعد عن القيم الروحية الدينية، وهنا تغلغلت ثقافة التشدد “الديني” إلى العالم “المدني” وأخذت العنصريات أشكالاً متعددة قد تؤدي إلى طمس الهوية المدنية للمجتمع والدولة، كما حصل في دول مثل أفغانستان وإيران إضافة إلى بعض الدول العربية وفي مقدمتها مصر ولبنان، اللتان كانتا أنموذجين واعدين لبناء الدولة المدنية العربية خلال القرن الماضي.
إلا أن الخطر اليوم بات يهدد مكتسبات العالم المدنية، من خلال البحث عن تحقيق المكاسب الاستراتيجية، والتي كانت سابقا تحتاج إلى مبررات سياسية لكنها ربما اليوم تحتاج إلى أكثر من ذلك ألا وهو المبرر “الأخلاقي” والذي قد لا يكون مقنعا إلا بالبحث عن صفة تقديس الفعل السياسي، وهذا ما يشحن أذهان كل المتعصبين والطائفيين في هذا العالم ليتحولوا إلى قنابل موقوتة ضد البشرية!
المصدر: صحيفة الوطن السعودية