حين نقرأ تاريخ النحو العربي، لا ينبغي أن نراه سرداً لبدايات علم لغوي، بل ولادة لنمط من التفكير العربي يسعى إلى عقلنة اللغة وتنظيمها في نسقٍ يعبّر عن وعيٍ جديد باللغة وقوانينها وأنماطها.
السؤال المتكرر حول كيفية نشأة النحو العربي، ربما ليس بالضرورة أن يُعنى بالإجابة عنه النحويون وحدهم، بل هو تفكير عميق وسرد وقائعي يُركز على مسألة كيف بدأ العربي يفكّر في لغته؟ وكيف تحوّلت تلك اللغة من ممارسة تلقائية إلى موضوع للتفكير المنهجي؟
لست معنياً -هنا- بالحديث عن علم القواعد ورسم القوانين والأنظمة، بل عن ولادة فكرة النظام اللغوي، تلك اللحظة التي خرج فيها اللسان من فضاء الغريزة إلى فضاء العقل، ومن التداول الشفهي إلى الضبط المنهجي، في واحدة من أعظم التحولات الفكرية في الثقافة العربية الإسلامية.
التفسير (السطحي) يربط نشأة النحو بـوقوع اللحن والخطأ في الكلام، خاصة عند اختلاط العربية بغيرها في عصر الفتوحات، وكأنّ العرب لم يفكروا في لغتهم إلا حين أخطأ الآخرون فيها.
ويُرجعنا هذا التفسير (غير الواعي) إلى حوادث فردية تجمع بين التضارب في المضامين، وضعف الرواية أو تباين الرواة في النقل، ناهيك عن كونها لا تُشكل نواة (تفكيرية) أو (تحريضية) لنشأة العلوم، كما أن هذا التفسير يختزل الظاهرة في بُعدها العملي ويُغفل عمقها الفكري.
الذي حدث في الحقيقة هو أن الوعي العربي-منذ النشأة ودون مؤثرات خارجية منطقية أو فلسفية- بدأ يدرك أن اللغة كيان معرفي مستقل، وأن الكلام لم يعد مجرد أداء صوتي، بل علامة على العقل، ونظام يضمن بقاء الفكر والهوية معاً، فالنحو العربي أو قوانين اللغة بهذا التأويل شكّلت استجابة لقلق حضاري أكثر منه إصلاحاً لغوياً.
ويُحسب لفترة النشأة الأولى اعتمادها على القرآن الكريم بوصفه الفضاء الأول الذي أثار السؤال اللغوي في الوعي العربي، ليس من منظور إعجازه فحسب، بل من حاجته إلى الضبط والتفسير أو النظر في تأويله ومناسبة معانيه.
فالقرآن الكريم — بلغته العالية وتعدّد قراءاته — فرض على العقل العربي أن يبحث عن منطقٍ لغوي يحفظ المعنى ويضبط الفهم.
من هذا المنطلق (الفكري) فإن عمل أبي الأسود الدؤلي، أو الخليل، أو سيبويه، أو تلاميذهم لم يكن تقنياً فحسب، بل تأويلياً بالمعنى الفلسفي للكلمة؛ إذ أرادوا أن يجعلوا اللغة أداة لفهم النص القرآني دون الوقوع في فوضى التأويل أو اضطراب التفسير والتحليل اعتماداً على قواعد صارمة تضمن الاتفاق على وجه العموم، وحين تختلف فإن الأمر لا يتجاوز حيّز الممكن لغة أو عقلاً، كما أن هؤلاء العلماء (المفكرين) لم يُغفلوا جانب الاهتمام بإيجاد توازن رصين بين النص والعقل، أو بين ما هو سماعي وما يصنّف ضمن دائرة (الاستنباط).
وبهذا أضحى نحونا العربي متوازناً بعقلانية محكمة لم تبنه على التجربة الخالصة، ولا على العقل المحض، بل جعلته (ممكناً جدلاً) بوصفه واقعاً بين المسموع والمفهوم.
يُضاف إلى هذا كله أن النحو نشأ -أيضاً- في ظلّ تحوّل اجتماعي عميق: الفتوحات، والتعدد الثقافي، ودخول غير العرب في الإسلام، وتغيّر بنية المجتمع، فأصبح اللسان رمزًا للهوية، والنحو مشروعاً لحماية الذات من الذوبان في الآخر، فسارع المفكرون من النحاة الأوائل إلى تأكيد الهوية العربية اللسانية، والبرهنة على أن لغتهم ليست فوضى من الأصوات، بل نظام دقيق يحمل عقلًا خاصاً، يشكّل آلية لضبط الخطاب وتوجيهه، أي ضبط حدود التفكير نفسه، ولهذا يمكن القول بأن النحو العربي بعقليته العربية الخالصة (التي لم تؤثر فيها المقولات المنطقية أو السريانية) يُعد أول مؤسسة معرفية تنظّم الذاكرة وتؤسس فكراً مستمراً، ويظل جهازاً معرفياً واجتماعياً وسياسياً يؤطر للوقائع، ويرسم الهوية، ويصوغ التاريخ والثقافة العربية الأصيلة,
