كاتب و ناشر من دولة الإمارات
خاص لـ هات بوست:
في الشرق الأوسط، ليست الفوضى هي ما يثير الغضب… بل الدولة التي تنجو منها.
منذ سنوات وأنا أتابع الحملات التي تتكرر على الإمارات، وأحاول أن أفهم سرّ هذا الاهتمام المبالغ فيه بدولة اختارت طريقًا مختلفًا عن ضجيج المنطقة. كنت أظن في البداية أن الأمر مجرد خلافات سياسية، أو ردود أفعال عابرة، أو حتى غيرة من نجاح اقتصادي استثنائي. لكنّ السؤال الحقيقي الذي تكشّف مع الزمن ليس لماذا تُنتقد الإمارات، بل لماذا يزعج نجاحها هذا العدد من الأطراف.
خريطة المنطقة اليوم تبدو مقسومة بين مشروعين: مشروع يؤمن بالاستقرار والتنمية والانفتاح، ومشروع يقوم على الفوضى والأدلجة ودوامة الصراعات. الإمارات وضعت نفسها بوضوح في جانب الدولة، لا جانب الميليشيا. ليس لأنها تدّعي المثالية، بل لأنها تعرف أن الفوضى لا تبني دولة ولا تحفظ اقتصادًا ولا تُؤمّن مستقبلًا. وهذا يظهر في ملفات عديدة: دعم الشرعية في اليمن، الموقف المتحفظ من فوضى ليبيا، ومحاولة المساعدة في تجنيب السودان الانهيار الكامل. قد يختلف الناس حول التفاصيل، لكن الاتجاه العام واضح: الانتصار لمنطق الدولة، لا لمنطق الانهيار.
وفي لحظة بدأت فيها موازين المنطقة تتحرك ببطء ثم بسرعة، صار من الواضح أن النقاش لم يعد سياسيًا فقط، بل اجتماعيًا وثقافيًا أيضًا. أصبح السؤال: ما هو النموذج الذي يستطيع أن يعيش وسط هذا الاضطراب؟ ومن هي الدولة التي تقدّم للناس — خصوصًا الشباب — معنى أكثر من الخطابة، ومساحة أكبر من الخوف؟
في هذا السياق، أذكر أن صديقًا عربيًا يعمل في مجال التكنولوجيا قال لي مرة وهو يشير إلى أبراج دبي: “هنا أشعر أن المستقبل ممكن”. جملة بسيطة، لكنها تعبّر بدقة عن روح جيل كامل من الشباب العربي الذين لم تعد تغريهم الشعارات، بل يريدون نموذجًا يحترم طموحهم ويمنحهم فرصة ليبدأوا من جديد. فالإمارات لم تعد مشروعًا معلّقًا على وعود التنمية، بل صارت مكانًا يعيش فيه المستقبل فعلًا، من 200 جنسية مختلفة، تحت قيادة اختارت الاستثمار في العقول أولًا، والبنية التحتية ثانيًا، والهدوء ثالثًا. وعندما تصل دولة عربية إلى المرتبة العاشرة عالميًا في مؤشر القوة الناعمة لعام 2025، فهذا ليس مجرد رقم، بل إعلان صريح بأن قواعد اللعبة تغيّرت، وأن مراكز النفوذ التقليدية لم تعد وحدها في المشهد.
ومع ذلك، ربما التهديد الأكبر الذي تمثله الإمارات على خصومها ليس سياسيًا بقدر ما هو وجودي. النموذج الإماراتي يربك سرديات التطرف بالكامل. كيف لجماعات تبني خطابها على فكرة “المؤامرة على الهوية” أن تواجه دولة عربية مسلمة أطلقت مسبارًا إلى المريخ؟ كيف لخطاب “الغرب ضد الإسلام” أن يصمد أمام صورة تجمع البابا وشيخ الأزهر في أبوظبي؟ وكيف يمكن لفكرة “الحداثة خطر” أن تبقى مقنعة في بلد تتجاور فيه المساجد والكنائس والمعابد دون توتر؟ الإمارات لم تتخلَّ عن هويتها، بل أعادت تعريفها بطريقة أكثر ثقة واتساعًا، وهذا وحده يهدد الخطاب المتطرف لأنه يسحب منه مبرّر وجوده.
وبعيدًا عن البعد الأيديولوجي، هناك ثمن جيوسياسي لطموح الإمارات المتسارع. فهي اليوم عقدة لوجستية عالمية، من ميناء جبل علي إلى مطاراتها، ومن شبكات التجارة الجديدة إلى حضورها المؤثر في الطاقة المتجددة بعد استضافة COP28. ثم يأتي دخولها القوي في الذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية، وتحولها إلى نقطة تلتقي عندها مصالح الشرق والغرب. كل هذا يجعلها لاعبًا لا يمكن تجاهله، وبالتالي يجعلها جزءًا من صراع النفوذ الدولي، سواء رغبت في ذلك أم لا.
ويزداد المشهد تعقيدًا لأن جزءًا كبيرًا من الهجوم على الإمارات لا يحدث في الصحافة أو المنابر السياسية، بل في العالم الرقمي: جيوش إلكترونية، حملات تضليل، حسابات وهمية، وخوارزميات تعيد تدوير محتوى مُعاد إنتاجه مئات المرات. المعركة لم تعد سياسية فقط، بل أصبحت رقمية، تمتد من غرف مغلقة إلى الشاشات الصغيرة التي نحملها في جيوبنا.
ومع ذلك، يبقى السؤال في النهاية بسيطًا: هل ستواصل الإمارات الصعود رغم هذا الضجيج؟ تجربتي في متابعة مسار الدولة تجعلني أميل إلى الإجابة بنعم. ليس لأنها بلا أخطاء، ولا لأنها محصّنة ضد النقد، بل لأنها تملك قدرة لافتة على التكيف وإعادة تعريف نفسها في كل مرحلة. ولأنها، وسط هذا كله، تقدم درسًا مهمًا: أن النجاح ممكن، وأن الأمل ليس رفاهية، وأن الضوء — مهما اشتدت حوله العتمة — يعرف دائمًا كيف يشق طريقه.
