تُعدُّ نظرية الحدث الكلامي -المعروفة أيضاً بنظرية أفعال الكلام- إحدى الركائز الأساسية في حقل اللسانيات التداولية، كما تُعرف كذلك بـ»نظرية الحدث اللغوي» و»النظرية الإنجازية» و»نظرية الفعل الكلامي» وغيرها من الصيغ التي تعكس الأبعاد المختلفة لهذه النظرية.
ومرت هذه النظرية بمرحلتين أساسيتين في تطورها: تمثلت الأولى في مرحلة التأسيس على يد الفيلسوف واللغوي الإنجليزي جون لانغشو أوستن، فيما مثلت الأخرى مرحلة النضج والضبط المنهجي على يد تلميذه الفيلسوف الأمريكي جون سيرل، الذي قام بتطوير أفكار أستاذه وتنظيمها في إطار منهجي متماسك.
تميز العمل التأسيسي بطرحه رؤية ثورية للغة، انتقلت بها من مجرد أداة للوصف والإخبار إلى وسيلة فاعلة لتحقيق الأفعال والتأثير في الواقع، وبيّن أوستن من خلال تحليله الدقيق أن بعض العبارات اللغوية لا تكتفي بتصوير الواقع، بل تشكّل أفعالاً بحد ذاتها، حيث يكون النطق هو الفعل نفسه، كما في حالات الوعد والقسم والاعتذار.
وقد أسهم هذا الإطار النظري في كسر الحاجز التقليدي بين القول والفعل، مشكّلاً أساساً متيناً للسانيات التداولية التي تهتم بدراسة الاستخدام الفعلي للغة في سياقاتها الاجتماعية، كما أرسى أوستن من خلال تحليله ضوابط التمييزَ بين الأفعال التلفظية والأفعال الإنجازية، ليفسح المجال أمام تطوير التصنيفات الأكثر دقة التي قدّمها لاحقاً تلميذه جون سيرل.
وأسست طروحات أوستن نصًّا تأسيسيًا في مجال التداوليات، وبالتحديد في طرحه لنظرية أفعال الكلام، حيث طرح فكرةً محوريةً مؤداها أن اللغة ليست وسيلة للوصف أو الإخبار فحسب، بل هي أداة لتنفيذ الأفعال وتحقيق الأغراض في سياقات اجتماعية محددة، مفتتحًا بذلك مجالًا جديدًا للبحث في علاقة اللغة بالفعل والسياق، منطلقًا من مبدأ(القصدية) الذي استلهمه من أفكار هوسرل والمدرسة الظاهراتية. وتكمن أهمية هذا المبدأ في كونه يربط بين التراكيب اللغوية وغرض المتكلّم، مع الأخذ بالحسبان المقصد العام للخطاب، وذلك ضمن إطار مفاهيمي شامل يستوعب الأبعاد التداولية للغة، وقد أثرى هذا الإسهام الجوهري هذا المجال بوضعه لتصوّر دلالي يركّز على المضامين التواصلية والمقاصد الكامنة وراء خطاب المتكلم ومقاصده.
هذا الفهم اللساني قاده إلى تطوير «نظرية أفعال الكلام» التي تقوم على ثنائية المستوى في كل عبارة: المستوى المقالي (فعل القول) الذي يمثل البنية اللغوية الظاهرة، والمستوى المقامي الذي يحتوي على (الفعل الإنجازي) المتعلق بقصد المتكلم و(الفعل التأثيري) المتمثل في الأثر الناتج عن الكلام، وتلقف أفكاره تلميذه سيرل فيما بعد لتبلور على يده نظرية الأفعال الكلامية أكثر، غير أن إضافة سيرل الأساسية التي مثلت نقطة تحول حاسمة عن تداولية أوستن، تجسدت في مستويين متلازمين، كان ثانيهما نتيجة للأول، تمثل المستوى الأول في الانتقال من مفهوم (الفعل الإنجازي الحرفي) إلى مفهوم (الفعل الإنجازي غير المباشر)، وهو ما استلزم بدوره المستوى الثاني المتمثل في وضع تصنيف جديد ومغاير لأفعال الكلام. ويبين سيرل منذ البداية منهجه البحثي حينما يجعل هذا الأمر هو قضيته الأساسية ولابد من فهمها بدقة.
وميز سيرل بين (القوة الإنجازية) والقضية المعدة للتلفظ والتبليغ، على اعتبار أن القوة الإنجازية يمكن أن تكون مضمرة، كما شدد على وجود تباينات بين (الأفعال الإنجازية) و(الألفاظ الإنجازية)، ذلك أن الألفاظ الإنجازية داخلة في اللغة وتعد فرعا عنها، وتبقى في مضمونها اجتماعية، في حين تتعلق الألفاظ الإنجازية بلغة خاصة بشكل يجعلها قابلة لأن تختلف من لغة إلى أخرى، إلا أنه إذا كان سيرل قد عمق ما تركه أوستين، فإن مركز اهتمامه كان هو «أفعال اللغة غير المباشرة» بهدف بناء النظرية وتنسيقها، مع تحديد شروط ومقومات الفعل الكلامي.
والخلاصة أن العمل الذي أنجزه أوستين هو عمل ذو فائدة لسانية عميقة، كونه نجح في بلورة فكرة مهمة، وهي أن وظيفة اللغة هي التأثير في العالم وصناعته، وليست مجرد أداة للتفكير أو لوصف الأنشطة الإنسانية المختلفة، وتُعدُّ الإسهامات التأسيسية التي قدمها أوستن في مجال نظرية أفعال الكلام هي التي فتحت آفاقًا رحبة للنقاش والبحث، حيث تبنّى عددٌ من أبرز الباحثين مثل سيرل هذه النظرية وعمقوها، مما وسّع نطاقها وأكسبها قدرة أكبر على استيعاب جملة من القضايا المتصلة بالأفعال الكلامية.
أما جهد سيرل في عرض أفعال الكلام فيُعد نموذجًا معيارياً رفيعاً، يبرز القيمة الفلسفية والمنهجية للنظرية، لاسيما تحليله للمكونات والأسس التصنيفية لعناصر القوى المتضمنة في القول. ومع ذلك، ورغم ما تميز به عمله من ثراء مفاهيمي ودقة منهجية، فإنه لا يخلو من انتقادات تستدعي إعادة النظر في بعض جوانبه، وتفتح الباب أمام مراجعات وتعديلات تثريه وتطوره أكثر.
المصدر: الجزيرة
