كاتب سعودي ويشغل حالياً منصب مدير قناة "العرب" الإخبارية
شاهدت الفيلم الأميركي الساخر The Campaign وهو ليس أفضل أفلام هوليوود، وبالتالي لا أنصح به، إلا إذا كنت مهتماً بموضوع المقالة، وهو الصناعة والعمل والبطالة في السعودية والخليج، فهي تشرح ومن دون قصد من كاتبها حالاً كارثية في سوق العمل عندنا، بقدر ما تصلح أيضاً كمادة تعليمية تشرح بسخرية سوداء نظام الانتخابات الأميركية وعملية صناعة الساسة هناك.
لا يفارق الفيلم الحقيقة عندما يقول إن أصحاب المال الجشعين في الولايات المتحدة هم الذين يصنعون الساسة هناك، وذلك بتمويل حملاتهم الانتخابية من أجل أن يخدموهم لاحقاً، ولنقد هذه الحقيقة عمد الفيلم للمبالغة، فالمرشحان المتنافسان على مقعد في الكونغرس، ويستخدمان أقذر الوسائل لتشويه بعضهما بعضاً، بينما يمول حملتيهما في الوقت نفسه ومن دون أن يعرفا ذلك رجلا أعمال يخططان لضمان وصول أحدهما إلى المنصب المنشود، حتى يمرر قانوناً يجيز بيع مقاطعة في الولاية بكاملها للحكومة الصينية، فيصبح من حقها نظاماً نقل مئات الآلاف من العمالة الصينية الرخيصة إلى هناك، بما في ذلك أطفال، للعمل في مصانع يقيمانها بالشراكة مع الصينيين في تلك المقاطعة وفق أنظمة الصين، فلا يحصلون على حق الهجرة، ولا يتمتعون بقوانين العمل الأميركية التي تحدد حداً أدنى للأجور ورعاية صحية وحقوقاً نقابية، فيبقون «وافدين» إلى ما لا نهاية، بينما يستفيد رجلا الأعمال الفاسدان، بخفض أجور الشحن الباهظة من الصين إلى أميركا فتتضاعف أرباحهما، كان ذلك حلهما الجشع وغير الوطني لهجرة المصانع الأميركية إلى الصين بحثاً عن العمالة الرخيصة، فابتدعا هذا الحل «غير الوطني واللاأخلاقي» بجلب العمالة إلى أميركا، وقد وظفا أيضاً حشداً من الصحافيين وخبراء الاقتصاد الذين روّجوا للرأي العام حكمة هذه السياسة وأنها الحل الذي يخدم المواطن والاقتصاد الأميركي.
تعد الصورة السابقة غاية في «الخطأ» ومصادمة لكل قواعد الاقتصاد والوطنية في الولايات المتحدة، ولكن أليس هذا ما نفعله في بلادنا؟ عندما نقيم مصنعاً للمكيفات أو إطارات السيارات، فنجلب له كامل العمالة من شرق آسيا، إنني لا أصدر حكماً سريعاً هنا، ولكنني أطرح المسألة للنقاش، هل من فائدة تعود على الاقتصاد الكلي للوطن، وعلى المدى البعيد عندما أقيم مصنعاً في المملكة أو أي بلد خليجي، لا يدار بأيدٍ وطنية، بينما في الإمكان أن نفعل مثل الشركات الأميركية والأوروبية، بالاستثمار وإقامة المصنع هناك في الصين أو إندونيسيا، أو حتى قريباً منا، في مصر أو تونس حيث تتوافر عمالة مدربة ورخيصة؟
في دول الخليج الست 15.165 مصنعاً وفق إحصاءات منظمة الخليج للاستشارات الصناعية للعام 2012 وهو رقم ينمو باطراد، يعمل بها أكثر من 1.3 مليون عامل، كم نسبة المواطنين منهم؟ لم أجد الإجابة في إحصاءات المنظمة، ولكن لن يتجاوزوا 20 في المئة في الغالب، إنه وضع اقتصادي غير طبيعي، ولا يمكن أن يستمر مع زيادة عدد الطاقات الشابة المواطنة التي تريد وظائف وغير مستعدة للعمل برواتب العمالة الوافدة المنخفضة نفسها، تضاف إلى ذلك أسعار الطاقة المخفضة جداً التي تتمتع بها الصناعة، التي لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية هي الأخرى.
في الثمانينات الميلادية من القرن الماضي، رفعنا شعار «الأمن الغذائي»، فزرعنا الصحارى قمحاً والأراضي الخصبة زهوراً، وشعرنا بالفخر والزهو أن صدّرنا بعضها إلى هولندا، موطن زراعة الزهور، ولكن في مقابل «الأمن الغذائي» أهدرنا «الأمن المائي»، واستهلكنا مخزون أجيال قادمة من معين نضب، هو مخزوننا الاستراتيجي من المياه، غريب كيف فعلنا ذلك والماء أشح ما يكون حيث نحن، صحراء ورمال، ولكننا تنبهنا للخطأ، متأخرين كثيراً، ولكن أن تصل متأخراً خير من ألا تصل أبداً.
قبل أيام وفي برنامج تلفزيوني، قال وزير المياه والكهرباء السعودي عبد الله الحصين وبوضوح إننا بلد غير زراعي وما كان ينبغي أن نكون، وتعجب أننا بعدما أهدرنا مواردنا غير المتجددة من المياه الجوفية في زراعة القمح، ثم الأعلاف وأخيراً الزيتون، إذ زرعنا 13 مليون شجرة زيتون، وقال بسخرية مرة: «نحن لا نعرف الزيتون إلا بقدر ما يعرف الإسبان عن الفرق بين الخلاص والبرحي»، وهما من أشهر أنواع التمور السعودية، وتوعد هذا الوزير المناضل بأنه سيسعى جاهداً إلى استصدار قرار حكومي يمنع زراعة الأعلاف قريباً، مؤكداً أنها وغيرها ستتوقف لا محالة إن لم يكن بقرار حكومي حتمي، فستتوقف عندما تحصل الكارثة وتنضب مياهنا الجوفية غير المتجددة.
بالتالي بدأت الدولة وبشكل رسمي في تغيير وجهتنا من زراعة صحرائنا إلى زراعة هضاب إثيوبيا، حيث استثمرنا بلايين هناك ولا نزال نفعل وندرس مواقع أخرى لتكون «مزارعنا» خارج الحدود ضمن مبادرة حكومية تشجع ذلك لتحقيق «أمن غذائي»، على رغم أن ثمة من يرى أن هذه المشاريع تستلزم برنامجاً موازياً لتخزين الغلال في المملكة، إذ إنه في حالات الحرب أو المجاعة يكون من حق الدولة المستثمر فيها وضع اليد على «المنتج السعودي» بغض النظر عن أي اتفاق مسبق.
فطالما قبلنا بذلك في الزراعة، لِمَ لا نقبله في الصناعة، ما لم تكن هناك ميزة حدية كصناعة ذكية مجدية اقتصادياً حتى لو دفعت السعر الحقيقي للطاقة والعمالة المحلية. حان الوقت أن نعيد النظر تماماً في استراتيجية التصنيع في المملكة ودول الخليج على أساس تقليص تدريجي لدعم المصانع بوقف أسعار اللقيم المخفضة ورفعها إلى الأسعار العالمية، وليس سراً أن ثمة حديثاً في ذلك لخفض الاستهلاك المحلي للطاقة، تضاف إلى ذلك سياسة وزارة العمل السعودية التي تهدف إلى رفع كلفة العمالة الرخيصة، وعندما يحصل ذلك أو بعضه ستعجز كثير من المصانع عن المنافسة، وستخرج بالتأكيد من السوق، بالتالي فإن الأفضل أن يفعلوا ذلك «بيدي لا بيد عمرو»، فالجميع يعلم أن دول الخليج والمملكة تحديداً لا تستطيع تمييز أصحاب المصانع بهذه المعاملة التفضيلية إلى ما لا نهاية، فإن دعت المصلحة السياسية يوماً إلى ذلك من أجل خلق طبقة وسطى وتوزيع الثروة، والاستثمار في التأسيس لخبرة في مجال الصناعة على أمل بأن تكون رديفاً للناتج القومي القائم على النفط وصانعة للوظائف، فإن مصلحة سياسية أخرى تتعارض مع ذلك بدأت تتشكل وتضغط على الحكومات، تتمثل في البطالة وانخفاض مستوى الدخل والاستهلاك العبثي لطاقة لها قيمتها المضاعفة في السوق.
لا أدعو إلى التخلي تماماً عن الزراعة والصناعة فلا يبقى لنا غير إنتاج النفط وتصديره، إنما إلى البحث عن بدائل ذكية في المجالين، فالأولوية يجب أن تكون للمواطن السعودي والخليجي، ولمجتمع وطني متجانس، ومدن هانئة غير مزدحمة، قبل صاحب رأس المال الذي لا يهمه أن تمتلئ مدننا بملايين لا ينقطع سيلها من العمالة الأجنبية الرخيصة وملايين أخرى من أبنائنا العاطلين من العمل. إنه فيلم درامي حقيقي نعيشه وليس فيلماً أميركياً ساخراً نتسلى به.
المصدر: الحياة