كاتب وأكاديمي عربي
كيف سُتكتب في المُستقبل حقبة التاريخ المعاصر التي نحياها الآن؟ وأي الروايات ستكون هي السائدة؟ إذا كنا نحن الناس الذين نعيش هذه الحقبة ونتابعها يومياً، وننعم بوسائل إعلام وتغطيات لم تكن موجودة سابقاً، نقرأ الشيء ونقيضه، ونرى “حقائق” ثم نقرأ “تفسيرات” لا علاقة ببعضها بعضا، وكأن “الحقائق” تحدث في كوكب آخر. لنتخيل مثلاً أن طالباً يدرس التاريخ في الجامعة سنة 2200 يريد أن ينجز بحثاً عن التحولات الإقليمية في المنطقة العربية بين سنوات 2010 و2020، فماذا سيجد على رفوف المكتبة (… الإلكترونية غالباً!). سيجد كتب “تاريخ” متنوعة المنطلقات يركز كل منها على جانب أو جوانب مُختارة من الأحداث التي وقعت في تلك الفترة، ويخلص كل منها إلى خلاصات مختلفة. سيجد كتاب المؤرخ الشهير “سين” وفيه سيقرأ أن حقبة 2010 -2020 شهدت قيام حرب كونية على مجموعة الدول والحركات التي كانت تقود “المقاومة”، وأن تلك الحرب تم التمهيد لها بما سُمي حينها “الربيع العربي”، والذي كان الهدف منه، كما تم “انكشاف” ذلك لاحقاً، اسقاط نظام المقاومة في سوريا، ومحاصرة نظام المقاومة في إيران.
سيحشد المؤرخ فلان شواهد و”حقائق” عديدة، أهمها انبعاث “الحركات التكفيرية” التي استهدفت الشيعة وأرادت إثارة حرب طائفية إقليمية، كما ويسلط الضوء على تفسيرات مُنتقاة تؤيد وتدعم وجهة نظره. وبالتأكيد سيكون من ضمن تلك الشواهد، مثلاً، اقتباسات كثيرة لمسؤولين إسرائيليين تشير إلى خطر إيران عليها وبكونها تمثل تهديداً وجودياً، بما يُثبت أن أطروحة الحرب الكونية التي يتبناها كتاب المؤرخ فلان كانت فعلًا بهدف القضاء على “محور المقاومة” وحماية إسرائيل.
في نفس رفوف المكتبة الالكترونية سيتناول طالبنا كتاباً آخر للمؤرخ “صاد”، وفيه سيقرأ “تأريخاً” وتوصيفاً مناقضاً تماماً لما قرأه في الكتاب الأول. هنا سيقرأ بأن العقد المرير والدامي من السنين الذي يدرسه تميز بأنه عقد تمدد النفوذ الإيراني في المنطقة، وسيطرته المباشرة أو غير المباشرة على أكثر من بلد عربي. سيقرأ طالبنا “أدلة وشواهد” على ذلك النفوذ منها إخضاع العراق وسوريا ولبنان تحت السيطرة الإيرانية، ثم تمدد إيران نحو الجزيرة العربية واليمن، اضافة لانتشار نفوذها خارج المنطقة (اي في افغانستان وباكستان وأفريقيا). وفي نفس الكتاب سيقرأ الطالب فصلاً عن “طائفية إيران” وإثارتها للنزاعات الدينية والطائفية، وفصلاً كاملًا مُخصصاً للتفسير الديني الشيعي لهذا التمدد وعلاقته بقدوم المهدي المنتظر، وبأن انتشار النفوذ وبروز القوة الإيرانية هي تمهيد لذلك القدوم. وفي هذا الفصل سيندهش الطالب من قراءة بعض المقولات المنسوبة إلى قياديين إيرانيين تقول بأن الأجهزة الاستخباراتية للولايات المتحدة، الشيطان الأكبر، والغرب عموماً، تتربص في المهدي المنتظر وعندها خطط محكمة لإعتقاله وخطفه فور ظهوره لقطع الطريق على الانتصار الكوني لإيران. في هذا الكتاب هناك فصول أخرى “تثبت” علاقة تواطؤ مريبة بين إيران من جهة وأميركا وإسرائيل من جهة ثالثة تقوم على تقاسم وظيفي واقعي على الأرض، مقابل عداء لفظي وإعلامي. ويستدل المؤرخ “صاد” على ذلك بعدم حدوث أي صدام عسكري أو معركة مهما كانت صغيرة بين إيران وإسرائيل.
ثم ينتقل طالبنا إلى كتاب لمؤرخ آخر هو المؤرخ “عين”، المعروف بتوجهاته الليبرالية والديمقراطية، وفي هذا الكتاب هناك مقاربة تاريخية أخرى. يقول المؤرخ “عين” إن تلك السنوات شهدت تحرك عدد من الشعوب العربية ضد الاستبداد والديكتاتورية وبحثاً عن الحرية والمشاركة السياسية، وإن ما حدث من حروب أهلية وتدخلات خارجية دامية كان هدفه القضاء المُبكر على حركة الدمقرطة التي بدأت بشائرها “بما سُمي آنذاك الربيع العربي”.
ويسرد المؤرخ “عين” أحداث وتفصيلات كثيرة تبدأ من تراخي الدعم العالمي والغربي تحديداً لحركات الديموقراطية العربية، إلى تجذر “الدولة العميقة” في المنطقة العربية، وصولاً إلى دور الحركات الإسلاموية وتطرفها في إجهاض التحول الديموقراطي واختطاف “الربيع العربي” وإرجاع الأمور إلى المربع الأول.
يحتار طالبنا المسكين فينتقل إلى كتاب المؤرخ “كاف”، المعروف بميوله الإسلامية. وهنا يقرأ مقاربة وتاريخا مختلفا تماماً. فالمؤرخ “كاف” يرى ان حقبة سنوات 2010_2020 كانت اللحظة التاريخية التي استيقظت فيها الشعوب المسلمة في المنطقة وقررت بالصوت الملآن ان “الاسلام هو الحل”.
هناك كتب أخرى كثيرة تؤرخ لنفس المرحلة، لكن طالبنا العزيز طاله اليأس من أن يفهم شيئاً من هذه الكتب الانتقائية، التي كل منها يرى بعين واحدة. ذلك كله للقول بأن كتابة التاريخ وحتى الراهن والمعاصر هي أصعب أنواع الكتابة. فهي تعتمد على ميول المؤرخ اولاً، وعلى انتقائه للأحداث ثانياً، وتفسيره لها ثالثا، ومقدار الأهمية التي يمنحها لهذا الحدث أو ذاك، أو لهذا الفرد أو ذاك. وذلك كله للقول أيضاً إن التأريخ الموضوعي الكامل أقرب إلى الوهم والاستحالة.
المصدر: الحياة