 
                        رضا أبوالعينين:
على مدى قرون طويلة، لم تكن سرقة آثار القبور في مصر القديمة مجرد حوادث عابرة أو جرائم فردية، بل كانت ظاهرة تركت بصمة عميقة على مسار التاريخ والحضارة المصرية، فقد ساهمت عمليات النهب المستمرة في تغيير أساليب بناء المقابر، وأثّرت على الدراسات الأثرية الحديثة، بل وأعادت تشكيل الطريقة التي تُعرض بها الكنوز المصرية في المتاحف العالمية اليوم.
كان المصريون القدماء يؤمنون بأن الحياة بعد الموت امتداد للحياة على الأرض، فكان لا بد من تجهيز القبور بكل ما يلزم للخلود، من ذهب ومجوهرات وأدوات وأثاث، لكن هذا الإيمان العميق واجه جشع اللصوص الذين خاطروا بحياتهم لتحدي القوانين والعقائد المقدسة، ما جعل أي قبر، مهما كانت تحصيناته، عرضة للسرقة.

حتى أشهر المقابر، مثل مقبرة الملك توت عنخ آمون، لم تسلم من النهب. فعندما اكتشفها عالم الآثار البريطاني هوارد كارتر عام 1922، وجدها شبه سليمة، لكنها كانت قد تعرّضت للاقتحام قبل قرون. وتُظهر الأدلة أن اللصوص فتحوا الصناديق وأخذوا بعض الكنوز قبل أن تُغلق المقبرة مجدداً، وفقا لـ StarsInsider.
وتعود جذور الظاهرة إلى عصور ما قبل الأسرات (قبل 3100 ق.م)، إذ كانت القبور تُنهب بعد فترة وجيزة من بنائها. وردا على ذلك، ابتكر المصريون أساليب معمارية معقدة لردع اللصوص، من بينها الأبواب الوهمية والممرات المضللة والحجرات الزائفة. لكن هذه الحيل لم تصمد أمام مهارة النهابين الذين كانوا يمتلكون أدوات دقيقة، ويعملون غالبا بتنسيق محكم ضمن شبكات منظمة تضم لصوصا، ووسطاء، ومسؤولين فاسدين.

الأمر لم يقتصر على الطبقات الدنيا من المجتمع؛ فقد كشفت بعض الوثائق التاريخية أن الملك منقرع، أحد ملوك الدولة القديمة، سمح لجنوده بنهب مواقع دفن كمكافأة لهم، ما يعكس مدى تغلغل فكرة النهب حتى في البنية السياسية والاجتماعية لتلك الحقبة.
وخلال الفترات الانتقالية التي سادت فيها الفوضى السياسية، كانت القبور تُترك دون حراسة، مما سهّل على اللصوص اقتحامها واقتلاع النقوش والقطع الثمينة منها. ومع مرور الزمن، امتد النهب إلى العصر الحديث، حيث استغل بعض الغربيين خلال القرن التاسع عشر موجة “الهوس بمصر” (Egyptomania) ليجمعوا التمائم والخنافس والمجوهرات كتذكارات من رحلاتهم، دون إدراك لقيمتها التاريخية.

وتحوّل هذا الشغف بالآثار إلى تجارة ضخمة غير شرعية، انتقلت عبرها آلاف القطع الأثرية إلى أوروبا وأمريكا. وقد استقر الكثير منها في متاحف كبرى مثل المتحف البريطاني ومتحف برلين الجديد، حيث لا تزال مصر تطالب باستعادة كنوزها المسلوبة، مثل تمثال نفرتيتي وحجر رشيد، اللذين يعتبران من أبرز رموز حضارتها القديمة.
حتى السينما الغربية ساهمت في تلميع صورة النهب؛ إذ قدّمت أفلام مثل «غزاة التابوت الضائع» (1981) و«المومياء» (1999) سرقة القبور كمغامرات مثيرة بدلاً من كونها جريمة ضد التاريخ الإنساني.

ورغم كل الخسائر التي لا يمكن تعويضها، فقد تركت هذه الظاهرة المظلمة أثرا مزدوجا، إذ دمرت جزءا من التراث المصري الذي لا يُقدّر بثمن، لكنها في الوقت ذاته أسهمت في نشوء علم المصريات الحديث، الذي لا يزال يسعى اليوم إلى سدّ الثغرات التي خلفها النهب عبر العصور، وإعادة الاعتبار لإرثٍ حضاري هو من أعظم ما عرفته البشرية.

المصدر: البيان

 
        


