كاتب سعودي ويشغل حالياً منصب مدير قناة "العرب" الإخبارية
كان طقس لندن في تلك الليلة محتَملاً، يميل للبرودة، ولكنه معتدلٌ بشكل كافٍ، فاخترت وأصدقاء مقهى في الهواء الطلق، توقف أحد المارة وخاطبنا بكل أدب: «أيها السادة، إنني رجل معدَم، أعيش في الشارع، لا بيت عندي ولا أسرة، بل ليس عندي حياة أعيشها، أرجوكم ساعدوني بقليل من المال كي آكل هذه الليلة» تجاهلناه، فمثله كثيرٌ في لندن، بل في كل مدن العالم، استمر في الحديث والاستجداء، توقفنا عن الحديث منتظرين أن يمضي، جاء النادل وصرفه، ولكنه عاد واستمر في عرض قضيته، في النهاية قال: «لا أريد أن أثقل عليكم، يكفي أن يقول أحدكم لا وسوف أمضي»، قلت له: «لا» فمضى.
كان الرجل مخموراً أيضاً، فهذا حال معظم من يسمونهم هنا «الهوملس» أي «بدون بيت»، ولكنه كان مؤدباً ويتحدث بلغة سليمة، ربما كان معلماً أو موظفاً محترماً، بعدما ذهب، فتحنا حديثاً حول كيف ينتهي إنسان في هذه البلاد إلى الشارع؟ تقدر الأمم المتحدة عدد «الهوملس» في العالم بنحو 100 مليون إنسان، موجودون حتى في أغنى الدول، ينامون حرفياً في الشوارع، كل من سافر للعواصم الغربية فلا بد أنه رآهم وتعجب، كيف ينتهي هؤلاء في الشارع بهذه الدول الغنية؟ البعض يستخدم حقيقة وجودهم للدلالة على ظلم الرأسمالية، ولكنهم موجودون في كل المجتمعات فلا نظلمنّ الغرب، فثمة جمعيات خيرية عديدة هناك تدير ملاجئ لهم، ولكن شقَّهم أكبر من الراتق، هم أيضاً يفضلون الحياة في الشارع لأسباب عدة، منها أن الملجأ لا يوفر لهم المال لشراء الخمور فيحصلون على المال بالتسول.
السبب الرئيسي هو الفقر الذي يأتي نتيجة الفشل في التعليم أو الحياة، ثمة مجلة لهم تُدعى The Big Issue يشاركون هم في تحريرها مع ناشطين اجتماعيين معنيين بقضيتهم، وتوفر مادة بحثية جيدة عن أسباب هذه المشكلة، لا يخلو عدد من قصص بعضهم، حكايات مؤلمة، ولكن يمكن أن تحصل لأي إنسان ناجح، بعض الناس لا يستطيعون تحمل صدمات الحياة، مثل طلاق أو خسارة وظيفة، فينتهي إلى الخمر أو المخدرات، حينها تزداد مشكلاته، بمشكلة أخطر، فيخسر بيته وأصدقاءه، فلا يجد من يحتمله، الأزمة الاقتصادية زادت من حدة المشكلة، فالأصحاء باتوا يناضلون للحفاظ على وظائفهم، فكيف بالمتعثرين المضطربين الذين يكونون أول من يُطرد من العمل.
في الغرب توجد دراسات وافية حول هذه القضية المؤلمة، وعدم وجود دراسات وإحصائيات عندنا لا ينفي وجودها، صحيح أن مجتمعاتنا العربية لا تزال متماسكة، يؤوي القادر فيها أخاه الضعيف ويستر عليه، ولكن الظاهرة موجودة حتى عندنا في السعودية، وتحتاج إلى اهتمام وصراحة، فالاقتصاد ضاغط، والبيت الكبير الذي كان يسع الأخ البائس وابن العم المتعثر لم يعد كبيراً كما كان، بل حتى القلب لم يعد كبيراً وحنوناً مثلما عهدناه، لنمارس قدراً من الصراحة ولنتحدث عن هذه القضية الكبرى.
المصدر: مجلة روتانا