كاتب وروائي سعودي
قد يختلف ما يزيد على بليون ونصف بليون مسلم تتقاسمهم الكرة الأرضية على تفاصيل معينة، وقد يخالفون في الرؤى والتصورات وحتى التطبيقات، لكنهم لا يختلفون ألبتة حول الثوابت الرئيسة التي توحدهم، وتجمع بينهم، والتي أصبحت مشمولة في عاداتهم وتقاليدهم، وجرت على ألسنتهم -عفوياً-، وخرجت من حناجرهم كالهواء الذي يتنفسونه.
ولن تجد أمة من الأمم تتفق على شخصٍ ما، مثلما يتفق المسلمون على مختلف طوائفهم ومذاهبهم على محمد -صلى الله عليه وسلم- تصل إلى مرحلة التقديس، والموت في سبيل الدفاع عنه، مع أن المسلمين مأمورون شرعاً بألا يسبوا الذي يجترئون على دينهم ظلماً وعدواناً؛ كي لا تطول المشاحنات وتتفجر القلوب حنقاً، وينصرف الدين عن غايته الأسمى، المتمثلة في نشره بالأخلاق والقيم المشمولة بالتسامح والعفو، قال تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم)، وعلى رغم تجاوز بعض المستشرقين في أطروحاتهم حدود الأدب واللياقة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إلا أنها ظلت في حيز الدفاع والذب عنه بما لا يصل إلى البارود والنار.
إلا أنه في زمن الاحتقان الديني والمغالاة، في ممارسة الحريات بما يخرجها عن بُعدها الإنساني، يكون الرد بلغة العصر الذي تخلى عن لغة العقل والمنطق، واتجه إلى استخدام الوسائل الأكثر تعبيراً ووضوحاً، وهو السلاح.
لم يكن ما تعرضت له صحيفة «شارلي إيبدو» حدثاً فريداً من نوعه، بل ثمة أحداث أخرى طاولت مفكرين وأدباء مسلمين، ليس على اجتراء مكشوف ومباشر، بل على مجرد تأويلات مفاهيمية سقطت في وعي بعض الجماعات الإسلامية.
اليوم، وفي زمن أصبحت لغة العقل خارج ميزان الحكم على الأشياء، تلتبس قيم الحرية على صحيفة «شارلي إيبدو» الفرنسية، وإن كانت تستند في ذلك إلى قوانين حرية الرأي والتعبير المكفولة بالقوانين الفرنسية، إلا أن احترام مشاعر الآخرين وعدم استفزازهم والتأليب عليهم مكفول أيضاً في كل القوانين العالمية العادلة.. فكيف به عندما يكون موجهاً إلى أمة ملأت الأرض من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها؟
ومع ذلك لم تثأر لنفسها عندما قصف الطيران الفرنسي العزل (عرب الصحراء في مالي)، ومشاركتها القوات الأميركية في قصفها لدول «الربيع العربي»، كما لم تحتفظ ذاكرتها بالصور البشعة للجرائم التي ارتكبتها فرنسا في الجزائر إبان الاحتلال، فلم تصمهم بالهمج أو البربر، بل تسامحت ونسيت، إنما جاشت بعض القلوب المستفزة من الإساءة إلى نبيها محمد -صلى الله عليه وسلم-، قد أتصور أن هذه الرسومات المستفزة قد صدرت في زمن سابق، فلربما لم يعر المسلمون أدنى اهتمام لها، وقد تُوجَّه عرائضُ استنكار رسمية تصدر من المؤسسات العاملة في الحقل الدعوي الإسلامي.
أما في هذا الزمن الذي استشرت فيه جبهات التطرف والإرهاب الديني وذيولها، فيصبح من الغباء جداً اللعب بالنار على هذا النحو الاستفزازي؛ لأن اللعبة لن تكون رهينة أيدي فقط المتطرفين، بل سيتداخل معها أطراف خفية، يهمها بالدرجة الأولى إلهاب الأعصاب المتوترة بين الشرق والغرب؛ لتقويض تلك الروابط التاريخية المتينة بينهما، ولن يجهل العالم الغربي -ومن بينها فرنسا- حقائق التاريخ المتمثلة في سماحة الإسلام مع الأديان الأخرى على مر التاريخ، إذ ترك للناس حرية ممارسة معتقداتهم، ومنحهم حقوقهم الوطنية بامتياز، ولعل من أشهرها تنعُّم كل الأديان والطوائف تحت مظلة إسلامية واحدة إبان الحكم الإسلامي في الأندلس، ويوم طُرد المسلمون واليهود معاً إبان القرن الـ15 من الأندلس ما لم يعتنقوا النصرانية، وكيف قوبل اليهود بالترحيب الحار من العثمانيين عندما حلوا في ديارهم هرباً من محاكم التفتيش.
لم يكن الإسلام ولا المسلمون بهذه البشاعة التي تصِرُّ بعضُ وسائل الإعلام الغربي على تصويرهم بها، حتى تبالغ صحيفة «شارلي إيبدو» إمعاناً بالتشفي والضغينة في تجسيد الرسول بلوحات كاريكاتورية مسيئة جداً لقيمة الإسلام العليا، وضرب معانيه السامية في نبيه، الذي أتى متمماً لمكارم الأخلاق، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في صاع من شعير اقترضه منه؛ لأنه لم يكن يجد ثمنه، وفي هذا دلالات لو تأملها كل من حاول أن يسيء إلى نبي الهدى لفهم أولاً سماحة الإسلام مع ذوي الأديان الأخرى، وتواضعه وإنسانيته في حياته، إذ لم يكن يطعم إلا ما تكسبه يده، فليس بسلطان ولا جبار ولا متكبر، إنما رسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق.
وكان من حقه أن يناله نصيب من العقل الذي منح هؤلاء حرية الاجتراء عليه، أن يدرسوه أولاً بأمانة علمية، قبل أن يتخذوه رمز إساءة بطريقة عشوائية، لا تمت بأي صلة إلى الذوق السليم والحس الراقي القويم، التي دائماً ما يتماهى الفرنسيون بها ويتفاخرون في أدبياتهم، ولامتنعوا عن إسقاط أخلاق وسلوكيات شذاذ الآفاق، من إرهابيين ومتطرفين على قامته العليا، والذين خرجوا نتيجة فرز تاريخي مرت الحواضر الأوروبية عبر قرون ماضية بما هو أشد وأعتى، من حروب وتصفيات طاحنة وقعت بين الكاثوليك والبروستانت، فلم يسقط إزرها على المسيح عليه السلام.
إن التطرف الفكري، والذهاب إلى أقصى حدود الحرية، سيفرز -حتماً- تطرفاً من نوع آخر، يستخدم في أقصى حدود الانتقام، فمن لا يملك القدرة عن التعبير بالقلم، وهو محتقن ملبد بكل الضغينة، سيبحث عن أداة أخرى يستخدمها ولو كان الجسد.
اليوم كل الدول متورطة بالإرهاب، وتعلم علم اليقين أنها مهددة في أي لحظة إلى عملية إرهابية انتحارية، لذلك تدفع عنها كل أسبابها ومسبباتها، بتأمين حدودها أولاً، والتحري والترصد لكل الجماعات الإرهابية أو المحتملة في الداخل، ومع ذلك فإن للإرهابي قدرة خاصة على الوصول إلى ما يريد مادام قد صغر في عينه الموت، ولم يجد سوى جسده متنفساً للتعبير عن ضغائنه وأحقاده للهدف المتوخى، لذلك من الحكمة بمكان أن يضع كل من حاول الإساءة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، أنه حي في أرواح وقلوب ملايين المسلمين، ولديهم الدافعية والحماسة الكافيتين للموت في سبيله، متى ما دُفعوا إلى ذلك دفعاً، ولاسيما في هذا الوقت الحرج الذي انفتحت الجماعات الجهادية المتطرفة على كل العالم، بلا استثناء، ولديها تنظيمات قادرة على التسلل إلى الأهداف بسهولة. فصحيفة «شارلي إيبدو» لا تتحدى سوى نفسها؛ بإعادة نشر الرسوم المسيئة، وعليها إثبات قدرتها على التحدي ونتائجه مستقبلاً.
المصدر: الحياة
http://alhayat.com/Opinion/Mohammed-Al-Mzini/