كاتبة سعودية مقيمة في دبي
كنت أريد الكتابة عن الـ 700 ألف سعودي الذين قصدوا البحرين ودبي لقضاء عطلة عيد الحج، أو عن الـ3 ملايين سعودي الذين أصبحوا مواطنين رقميين، وهم أناس أصبحوا في معترض ما يضخه العالم من تقنيات وأخبار، وعالم يصبح صغيراً بين يديك، لكنني كالعادة أصبحت أيضاً تحت سيطرة هذه التقنية التي صارت تدور أخبارها وتستفزنا، فلا ننجو من الدوران معها في الدائرة نفسها، تستفزني استفزك نستفز العالم، وقد وصلتني طرفة «واتساب» تقول إن كلمات دخلت التاريخ هي: «من أنتم؟ فهمتكم. لا تستفزني»، أما قصة هذه الكلمة «لا تستفزني»، فقد قيلت بلهجة أهل القصيم المحببة بحذف الياء من آخرها «لا تستفزن» في حادثة وقعت لسيدة في متجر، وقام أحد المواطنين بتسجيلها من خلال كاميرا هاتفه، ووضعها على «يوتيوب»، ثم نشرها في «تويتر»، ثم تلقفتها البرامج الإخبارية على التلفزيون. السيدة ظهرت في التصوير وهي تتجادل مع رجل «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، ويقف بجواره جندي خصص لمرافقته كي يلتزم الناس بإرشاداته الدينية ويذعنون له، لكن كل هذا لم ينجح مع السيدة التي صاحت في وجه رجل الهيئة «لا تستفزني»!
السيدة كانت تلبس عباءة سوداء تغطي جسدها من كتفها وحتى أخمص قدميها، وتشدّ على وجهها لثاماً أسود فلا يظهر منها سوى عينيها، وهي كما ظهر في التسجيل تتبضع من محل تجاري ثياب العيد لأطفالها، أي مشغولة في شأنها العائلي، «كافية خيرها وشرها»، لكن رجل الهيئة المخلص في عمله لا يريد أن يترك امرأة ظهرت لها عين أو أظفر، أو وضعت عباءتها على الكتف، فيطلب منها أن تضعها على الرأس. يعني حركة تصحيح فائضة لا تنتهي إلا بالترغيب في الجلوس بالمنزل. المرأة التي وجدت قامة رجل فوق رأسها تقاطع تسوقها وترشدها غصباً، وترفض أن تتركها في شأنها، فاض بها وملت، فقالت له: «لا تستفزن»، ثم أضافت بغضب: «هل تظن أنك وحدك من يفهم الدين وليس غيرك؟ هل تظن أن الناس في العالم الإسلامي كله لا يفهمون حين لا يأمرون بغطاء الوجه للمرأة؟ إن غطاء الوجه غير مأمور به في الدين، ثم تلت آية «يدنين عليهن من جلابيبهن»، وقالت «الإدناء» وفق العرف والحشمة، ثم أوقعته في المطب الأخير والقاتل قائلة: «مع هذا كله فإنني ملثمة وتعترض طريقي؟». السيدة على رغم قناعتها بما قالت فإنها أبقت لثامها احتراماً للعرف، وهذا ما عزّ عليها من أن تجد رجل إرشاد ديني يعترض طريقها ويحرجها أمام الناس، ويأخذ من وقتها ووقت أطفالها، ويبث الرعب في نفوسهم، ويرفع صوته في وجهها.
لماذا استحقت سيدة «لا تستفزن» أن تدخل تاريخ «تويتر» السعودي، ويتناولها برنامج «يا هلا» في «روتانا»، ويناقش أمرها الشبان والشابات في «تويتر» قائلين: «ما يستفاد من القصة: لا تعترض طريقاً؟» أم «لم تجد مقاسات أطفالها فقد ترديك قتيلاً». هل القصة كما أراد الشباب أن يقولوا إن السيدة لديها من المشكلات والمشاغل ما يكفيها عن أن يأتي رجل الهيئة ويضع مشكلة على رأسها فوق البيعة؟
أنا لدي أيضاًَ ما يستفاد من القصة، وهو بالضبط ما ظننت أنني شغلت عنه، فهذا على ما يبدو سبب يجعل الـ700 ألف مواطن سعودي يذهبون لقضاء العيد في دول الخليج القريبة منهم، وهو سبب يجعل الـ3 ملايين مواطن ومواطنة على تواصل مع العالم، حتى صاروا يعرفون أن وجهة النظر الفقهية الضيقة ليست سوى فهم بشري غير ملزم للجميع، فإن أراد أحد أن يعيش على الخبز والزيت تقشفاً وتعبداً، فهذا شأنه وطريقته وفهمه، لكن إن خرج على الناس يدفعهم لأن يقلدوه ورغماً عنهم أيضاً، فهذا تسلّط وقهر.
أن تعترض طريقي كي تقول لي رأيك، ثم لا تمضي لشأنك، بل تلح عليّ أن أتَّبعه وتعطلني عن عملي، فهذا استفزاز، لكن أن تصحب معك جندياً كي يقف في طريقي معك، فهذا لا يعني سوى «الاستبداد»!
المصدر: صحيفة الحياة