مدير تحرير صحيفة الجزيرة
باستثناء حرب 1973، فإن القيمة الثابتة للجيوش للعربية تنحصر في الأغاني الوطنية المصحوبة باستعراضات عسكرية ترهب كل عدو من الجرأة على الحدود.
أخافت هذه الأغاني المتفجرة -غضباً وغيرة على الوطن- كل الأعداء باستثناء إسرائيل، التي تمطت في جلستها عام 1967 ومدت ذراعيها ثم لم ترفعهما حتى الآن. ظلت الجيوش العربية تلتهم الموازنات، وتستبدل قطع سلاحها القديمة بأخرى جديدة، ويجوب قادتها وأفرادها أنحاء العالم تدريباً وتطويراً، وتزرع الفساد، وتستغل رتبها العسكرية في إثارة الرعب الداخلي، وتخدم تجارة السلاح العالمي، من دون أن تترك يوماً بصمة فارقة تبرهن على امتيازها، مع أنها معذورة في ذلك، لأن الزمن خذلها فلم يمنحها فرصة تأكيد قوتها وشدة بطشها.
في ثلاث سنوات تدفقت الفرص الاختبارية على كثير من هذه الجيوش، لكنها لم تأت من حرب مباشرة، بل عبر جماعات إرهابية نبتت فجأة فشتتتْ شمل كل جيش واجهته، على رغم أنها غير مدربة عسكرياً، ولا تملك طيراناً أو أسلحة شديدة الخطورة، لكنها تملك خياراً نسيته هذه الجيوش، وهو أن الموت مقدم على الحياة، وهو المبدأ ذاته -افتراضياً- التي تتكئ عليه الجيوش باعتبارها فداء الوطن، تدفع بأرواحها من أجل حياته وصيانة حدوده وسلامة أهاليه.
جوليا بطرس هي الصفة النضالية الحية عربياً منذ أغنيتها الأولى «غابت شمس الحق» 1985 لتدعم حنجرتها القوية الغاضبة كل مناسبة وطنية، سواء أكانت استعراضاً عسكرياً أم احتفالاً عاماً أم تعبيراً عن الاحتجاج والتهديد والوعيد. ويندر أن تخلو تظاهرة عربية غاضبة من التجوال حول مكبرات صوت تردد أغنيتها «وين الملايين» لتكون الخاتمة رقصاً تشنجياً على إيقاع الكلمات.
منذ ثلاث سنوات كل مواطن عربي يتساءل: أيصمد جيشه العظيم أمام الموجة الإرهابية أم سيتمزق، لأنه لا يعرف، ربما، كيف يستخدم سلاحه أو لا يعرف معنى الوطن والفداء؟ الرابطة الوحدوية بين المواطنين العرب، اليوم، هي الخوف من الجماعات الإرهابية، وترقب لحظة هجومها، فلا ثقة بالجيش وتصريحاته. الأمل الوحيد لنجاتهم هو أن يتأخر الهجوم حتى لا يكونوا عرضة لمجازر مروعة فداءً للجيش. كيف يثق الفرد في جيش نادى عالياً، في أول مواجهة، بالتطوع وأحال مهمة الدفاع للمواطنين الذين لم يقضوا ساعة واحدة في مراكز التدريب؟
في اليمن يلهث الجيش متعباً خلف مجموعات القاعدة وتتشتت قدراته بينها وبين الحوثيين. في ليبيا أصبحت القواعد العسكرية مسكناً وعنواناً للجماعات المسلحة. في السودان يلاحق الجيش مواطنيه مسجلاً أرقاماً قياسية في فنائهم. في الصومال يقتصر دوره على حماية القصر الرئاسي. في العراق لم يسلِّموا أسلحتهم فقط بل حتى ملابسهم العسكرية لحظة أن أطل رأس «داعش» على حدود الموصل. في سورية يوظف الجيش النظامي كل ترسانته من الأسلحة لقتل شعبه، بينما تتصارع «داعش» و «النصرة» على جل مساحات أراضيه، وتتمتع بنفطه وتتقاسم موارده، أما البقية فينتظرون مصيرهم وكأن العالم العربي يستعيد مشهد غزو المغول مع فارق القوة والكثافة والتدريب وإن تشابه المصير.
جوليا المسيحية جسدت الوحدة العربية وأكدت وحدة الهواجس. هي مثل البطولة لا تظهر إلا في الأزمات، لكن اللافت أن جوليا ما زالت تنادي شريكتها التي لم تظهر بعدُ حتى لا تغيب شمس الفن وتخسر الجماهير الغاضبة نشوتها اللازمة.
جوليا تتسيد هذه الأيام المشهد العربي وكأنها الخلاص من كل المآزق، بينما المهمة الجذرية موكولة إلى الجيش اللبناني الذي يحارب الإرهابيين في عرسال، فإما أن يعيد الكرامة إلى الجيوش العربية وينبذ الصورة المتخاذلة ويمنح الناس التفاؤل والثقة في معنى الجيش، أو يفتح الحدود العربية الأخرى لموجة جديدة من الإرهاب بعد أن تيقن أن الجيوش صورة تلفزيونية لا ترهب خارج حدود الشاشة أحداً.
في قبضة الجيش اللبناني الكرامة العربية مجتمعة، وفيه الأمل أن يكون قطز العصر الحديث، وأن يجعل عرسال نسخة عصرية من «عين جالوت».
المصدر: الحياة
http://alhayat.com/Opinion/Jasser-AlJasser/3966487