تسود في لبنان، الاثنين، أجواء من الحداد والصدمة الممزوجة بغضب شعبي غداة مقتل نحو 30 شخصاً في شمال البلاد، كانوا يحاولون الحصول على بضعة لترات من البنزين من خزان انفجر بهم، في كارثة جديدة مني بها البلد الغارق في أزمات ومآس متلاحقة منذ عامين.
وأعاد انفجار خزان الوقود إلى الأذهان انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب/ أغسطس 2020 الذي أودى بحياة 200 شخص على الأقل ولم يتخط اللبنانيون حتى الآن صدمته. وقد نتج عن تخزين كميات ضخمة من نيترات الأمونيوم في عنبر من دون أي إجراءات وقاية. بينما خزان الوقود الذي انفجر في بلدة التليل في منطقة عكار الشمالية كان يحوي كميات من البنزين المخزّن في غير مكانه، في وقت لا يتوافر البنزين لسكان المنطقة.
وأعلنت السلطات حداداً وطنياً، الاثنين، على الضحايا.
وتقول فرح (21 عاماً) الشابة المتخرجة حديثاً من الجامعة: «لا أعرف إن كنت أبكي على انفجار عكار أو على كل شيء. أخشى أن نصل إلى مرحلة نصبح مضطرين إلى الهرب عبر البحر.. وربما نموت غرقاً». وتضيف: «خفت أكثر بعد انفجار عكار.. صرت أسأل نفسي: ماذا لو وقع الانفجار قرب منزلي؟» لوجود محطتي محروقات في الجوار.
ينتظر اللبنانيون يومياً في طوابير طويلة أمام محطات الوقود للحصول على كميات قليلة من البنزين، بينما أقفلت بعض المحطات أبوابها. ويلجأ كثيرون إلى شراء المحروقات من السوق السوداء.
ويعود السبب الأساسي للأزمة إلى أن مصرف لبنان لم يعد يملك ما يكفي من العملات الأجنبية ليفتح اعتمادات لاستيراد المحروقات بسعر الدولار الرسمي (أي 1500 ليرة، أو حتى بالسعر الذي حدده منذ أشهر 3900 ليرة لبنانية)، فأعلن أن الاعتمادات ستفتح بالسعر المتداول بالدولار في السوق السوداء، أي نحو عشرين ألف ليرة.
ويعني ذلك أن أسعار المحروقات سترتفع بنسبة تفوق 300 في المئة. ويغذي شح المحروقات الاحتكار. في الوقت نفسه، أكد مسؤولون وتقارير إعلامية مراراً أن كميات ضخمة من البنزين والمازوت تهرب إلى سوريا المجاورة، ما يسهم في تعميق الأزمة.
تهريب وسوق سوداء
يقوم الجيش اللبناني منذ أيام بحملة لفتح محطات بنزين أو مستودعات تخزن وقوداً بالقوة. وكان الخزان الذي انفجر في الشمال جزءاً من هذه الحملة، إذ عثر الجيش فيه على كمية من البنزين، فصادرها لتوزيعها على المواطنين. وعندما هرع الأهالي إلى المكان للحصول على بعض البنزين، ترك عناصر الجيش لهم ثلاثة آلاف لتر، وفق ما قال شهود.
وحصلت فوضى في المكان، ثم وقع الانفجار الذي لم تعرف أسبابه بعد، وقد أدى إلى مقتل 28 شخصاً على الأقل وعشرات المصابين معظمهم بحروق خطيرة. ولا تزال هناك أشلاء لم يتم التعرف إلى أصحابها بسبب تفحمها.
وقال طبيب في أحد مستشفيات عكار: بدأت عمليات فحص الحمض النووي على كمية كبيرة من الأشلاء. وأكد عدد من سكان المنطقة عبر شاشات التلفزة خلال اليومين الماضيين أن هذا البنزين كان مخزناً ليهرب إلى سوريا المحاذية لمنطقة عكار.
وقال حاكم مصرف لبنان رياض سلامة قبل يومين في مقابلة إذاعية: «من غير المقبول أن نستورد 820 مليون دولار (في الشهر) من المحروقات ولا نرى لا مازوت ولا بنزين ولا كهرباء». وأضاف أن هدف المصرف المركزي بتوفير الأموال للاستيراد، دعم «لبنان وليس بلداً آخر».
ومنذ عشرات السنين، تنشط عمليات التهريب بين لبنان وسوريا خصوصاً من منطقتي عكار والبقاع (شرقاً) وتشمل بضائع مختلفة.
وفي رد فعل غاضب على انفجار الأحد، قصد سكان بعد وقت قصير على المأساة الأرض التي كان البنزين مخزناً فيها في بلدة التليل وأضرموا النار في منزل صاحبها تحت أنظار عناصر من الجيش الذين لم ينجحوا في إيقافهم.
وحصلت تجمعات واحتجاجات شعبية هنا وهناك، لا سيما قرب منازل نواب من المنطقة ومسؤولين بينهم نجيب ميقاتي المكلف بتشكيل حكومة جديدة، وطالب المتظاهرون برحيل الطبقة السياسية.
«فساد قاتل»
ويحمّل اللبنانيون الطبقة السياسية مسؤولية الكوارث الحاصلة والانهيار الاقتصادي جراء الفساد المستشري في مؤسسات الدولة والعجز والإهمال.
وتقول الباحثة في الشأن اللبناني في منظمة العفو الدولية سحر مندور: «أمس وقعت مجزرة بسبب أزمة اقتصادية ناتجة عن فساد هائل مستمر منذ سنوات وتصاعد مع الأزمة الاقتصادية الأخيرة».
وأضافت: «إنه فساد قاتل بالعين المجردة.. وسط غياب للمسؤولية السياسية». وزاد انفجار الأحد، الضغط على المستشفيات المرهقة منذ أشهر طويلة نتيجة نقص المحروقات والتجهيزات والأدوية والتي حذر بعضها من احتمال توقف العمل فيها. واضطرت السلطات إلى إجلاء جرحى إلى تركيا والكويت لعدم قدرة المستشفيات على علاجهم.
وتراجعت تدريجياً خلال الأشهر الماضية قدرة مؤسسة كهرباء لبنان على توفير التغذية، ما أدى إلى رفع ساعات التقنين لتتجاوز 22 ساعة يومياً. ولم تعد المولدات الخاصة قادرة على تأمين المازوت اللازم لتغطية ساعات انقطاع الكهرباء، ما اضطرها إلى التقنين أيضاً.
وجراء أزمة المحروقات المتفاقمة، باتت أفران غير قادرة على صناعة الخبز، ما يجعل المواطنين يقفون أيضاً في طوابير لشرائه أو يشترونه بسعر خيالي، بينما هناك خشية من انقطاع الغاز المنزلي.
وصنف البنك الدولي الانهيار الاقتصادي في لبنان بين الأسوأ في العالم منذ العام 1850. وعلى الرغم من معاناة الناس، ما زال المسؤولون اللبنانيون غير قادرين على الاتفاق على تشكيلة حكومية بل يختلفون على توزيع الحصص.
واستقالت الحكومة برئاسة حسان دياب بعد انفجار المرفأ، وكُلف رئيس الحكومة السابق سعد الحريري تشكيل حكومة، لكنه اعتذر عن عدم إتمام المهمة بعد تسعة شهور.
ومن المفترض أن يلتقي ميقاتي، الاثنين، رئيس الجمهورية ميشال عون لمواصلة البحث في تشكيل الحكومة. ويشترط المجتمع الدولي تشكيل حكومة تنفذ إصلاحات جذرية ليقدم الدعم المالي للبنان. وتقول مندور: «السلطة السياسية غير مهتمة سوى بتأمين استمراريتها واستمرارية الفساد الذي تقوم عليه».
المصدر: الخليج