كاتب إماراتي
بقلم: ياسر حارب
تحدث إمام المسجد في الجمعة الماضية عن الحياة الزوجية، وكان يذكر بين الفينة والأخرى جملة «وهو أقرب إلى تأديبهن» فظننتُ أنه يتحدث عن البنات، ولكنني أيقنت بعد بضع دقائق أنه كان يتحدث عن الزوجات، أي الأمهات اللائي يُفترض بهن أن يؤدبن أطفالهن، فاستغربتُ لماذا يحتجن إلى تأديب!
وإذا سألتَ أحدهم: «هل أكرم الإسلام المرأة؟» فسيرد بالإيجاب، ولكن إن سألته عن أدلة على ذلك فلربما يتلعثم ولا يستطيع الرد لأنه لا يعلم كيف أكرمها، وكان يكفيه الاستشهاد بأن النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ قد فاضل بين الرجال على قدر إحسانهم لنسائهم. إن النسق الاجتماعي العربي ما زال يعاني ازدواجية مربكة في نظرته تجاه المرأة، فهو يؤمن بأن للمرأة حقوقا ومكانة رفيعة.
ولكنه يناقض نفسه في كثير من الأحيان، عندما يتفاعل مع قضاياها. وإحدى أبرز هذه التناقضات هو تأطيره لممارسات سماها «قضايا المرأة» ومحاولته (منحها) حقوقا، متغاضياً عن كيانها الوجودي المستمد من الأعطية الإلهية التي وهبها الله لكلا الجنسين، والتي لم يوكل الرجل ليمنحها للمرأة بالنيابة عنه.
ثم تباينت المجتمعات التي سيطرت عليها النزعة الذكورية على مر الزمن في منح المرأة حقوقها أو سلبها إياها، وقلّما وجد مجتمع في التاريخ تعامل مع المرأة بحيادية وإنصاف مثلما تعامل مع الرجل. ولقد أحالت هذه الربكة المرأة إلى كائن نسبي المكانة، أي أن مكانتها في المجتمع تُحدَد تبعا للتركيبة الثقافية والصورة الذهنية التي يصورها تراث ذلك المجتمع، والذي يكتبه الرجل، ويزوره الرجل في بعض الأحيان.
أُثيرت قبل أيام ضجة حول حكم جلد الفتاة السعودية (شيماء جستنية) عشر جلدات لأنها قادت سيارتها في جدة في يوليو الماضي، وعندما كتبتُ في تويتر بأنها لم تخالف القانون، حيث لا يوجد نص قانوني يمنع المرأة من القيادة.
وهي تملك رخصة قيادة دولية، استغربتُ من ردود الفعل التي جاءتني مؤيدة للحكم، حيث قال أحدهم بأنها خالفت القوانين وبالتالي فإنها تستحق العقوبة! فقلتُ بأن العقوبة يجب أن تكون على قدْر الجُرم، فكان يمكن أن تُغرّم ماليا أو تُحبس إن نص القانون على ذلك، فقال آخر بأن الحبس سيعطل مصالحها، أما الجلد فإنه سيتم بسرعة وستنصرف لأعمالها!
لقد كانت الآراء المؤيدة للجلد أقسى من الحكم نفسه، وكان التناقض بين المستوى الفكري للأفراد وبين نظرتهم للمرأة جليا في قول ثلاثة أساتذة في الجامعة بأن شيماء مواطنة خالفت القانون ويجب أن تعاقب، ثم عقّب أحدهم: «ما المشكلة إذا جُلِدَت»!
لقد نقض الملك عبدالله بحكمته قرار الجلد، ولكن المشكلة في المبدأ وليست في الموقف، فعندما ينصّب الرجل نفسه مسؤولا عن حقوق المرأة، وواجباتها، وشرفها، وحريتها…
فإنه بالتالي يكون مسؤولا عن وجودها وكينونتها المستمدة من الخالق، مما يعمّق الصراع القيمي في بعض مجتمعاتنا الإسلامية التي تعتقد ببعض العادات بصورة جازمة وتردد مقولات تراثية ـــ غير النصوص الشرعية ـــ وتضعها في خانة (الحقيقة المُطْلَقة)، والمشكلة الكبرى هي عندما يعاد تأويل النصوص الشرعية لتُجاري التّزمّت الفكري لبعض الأفراد.
لماذا لا يمجّد العربي المرأة إلا إذا كان في حاجتها الاجتماعية، كرعاية بيته وتربية أبنائه؟ ولماذا لا يقدم لها القرابين العينية والمادية إلا إذا كان في حاجتها الجنسية؟
لا نكاد نقرأ في تراثنا العربي والإسلامي عن إنجازات المرأة إلا النزر اليسير، حتى ليظن أحدنا بأن التاريخ كان حكرا على الرجال، فهم الذين يخوضون المعارك، ويبنون المدن، ويضعون القوانين، وينشؤون الدواوين، ويخترعون ويؤلفون، ثم تأتي المرأة بعد تحقيق كل تلك الانتصارات لتكون إما جارية أو زوجة! لماذا نحتكر كرامة المرأة في بيتها، ونبوتِق قيمتها في أمومتها فقط؟
إن العقلية التي تفترض بأن المرأة قاصرٌ وعلى الرجل تقويمه تُسْقِطُ كل احتمالات حصول المرأة على مكانتها في المجتمع، فالمعضلة هنا ليست في الممارسات العنصرية ضدها، ولكنها في النظرة المغلوطة حول الهدف من وجودها في الحياة.
إن من حَكم على شيماء بالجلد لم يفعل ذلك مستندا على دليل من الشريعة، ولكنه (قاسَ) وعزّر حتى فاق العقاب الجريمة، فطبق عليها عقوبة (تشهير) وضعتها في نفس خانة شارب الخمر والزاني، مع اختلاف عدد الجلدات. إن نفس هذه الفئة لا تكف عن التنطع بأن الإسلام أنصف المرأة وأكرمها.
وهو فعلا كذلك، «ولكنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم». مشكلتنا هي أننا لا ننظر إلى الكيان الوجودي للمرأة ولكن إلى كيانها النفعي، ولذلك فإننا عندما نتحدث عن حقوقها فإننا نرى الجانب المادي، كقيادة السيارة والتصويت وغيرها، وهي جوانب مهمة، ولكننا نغفل الجانب البنيوي القائم على النظر إليها كشريك يمتلك من المقومات الوجودية والروحية ما يملكه الرجل، وقد تزيد عليه أحياناً. وإذا كان الرجل يُحسِنُ رسم الحياة، فإن المرأة تُحسِنُ تلوينها.
نشرت هذه المادة في جريدة “البيان” الإماراتية بتاريخ 1 اكتوبر 2011