كاتب سعودي
هنالك حركات مقاومة إسلامية؛ توجه بنادقها وصواريخها، تجاه العدو الصهيوني؛ خارجة عن ما أقصده بالحركات الجهادية الإرهابية؛ على شاكلة القاعدة وتفرعاتها وأخواتها. حيث أعد بأن أي تنظيم عسكري، سواء جهادي أو غير جهادي يوجه بندقيته، خارج دائرة العدو الصهيوني هو تنظيم مشكوك في أمره ونواياه. وحتى أرى بأن أي، مقاومة ضد العدو الصهيوني؛ تأتي مفتعلة؛ وليست جزءا من استراتيجية شاملة، لردع اعتداءات العدو الصهيوني وهمجيته وغطرسته ضد شعبنا المقاوم في فلسطين المحتلة؛ وتحجيمه للوضع الذي يستحقه؛ داخلة ضمن حركات العبثية الجهادية.
لا أحد ينكر، بأن الحركات الجهادية الإرهابية، القاعدة وتفرعاتها وأخواتها؛ لها قبول واسع عند كثير من الجماهير العربية والإسلامية؛ ولكن ليس هذا من قبيل ما تمنحه أو تعد به، من تقدم وتحضر وازدهار؛ ولكن من قبيل الإفلاس الحضاري والمدني والتقدمي، الذي تعيشه المنطقة العربية والإسلامية بشكل عام.
المنطقة تعيش في فراغ حضاري، وحتى إنساني مريع؛ ناهيك عن العلمي والمدني والتقدمي. ولذلك أتت هذه الحركات الجهادية العبثية والإرهابية لتملأ جزءا من هذا الفراغ إن لم نقل جله. أي أتت الحركات الجهادية الإرهابية؛ كسراب يحسبه الظمآن ماءً.
عاش العالم العربي حوالي أكثر من ستة قرون؛ منذ سيطرة الدولة العثمانية عليه؛ بقطيعة شبه تامة، عن العالم من حوله؛ ناهيك عن إشعاعات العلم والحضارة. حيث عمدت الدولة العثمانية بعزل العالم العربي عما يجري في محيطه؛ وتولت هي إدارة شؤونه الداخلية والخارجية، بدلا منه. وبذلك تم تجريد العرب من صلاحيات القيادة السياسية والعسكرية وحتى المالية. وعلى هذا الأساس؛ انكمش كل جزء من العالم العربي حول نفسه؛ وبدأ مع مر الزمن، يشكل تجانسا يخصه هو، ويقصيه نوعاً ما، عن محيطة العربي؛ حيث تشكلت اللهجات المحلية، على حساب اللغة العربية الجامعة. وفي ظل العزلات المحلية، تشكلت ثقافات محلية كذلك؛ تضيف عزلة كل جزء عما يليه، جغرافياً وثقافياً. وشاعت الأمية والثقافة الشفهية الخرافية والأسطورية داخل كل ثقافة منها؛ وعليه تم تغييب العقل، شيئاً فشيئاً.
عندما تفككت الدولة العثمانية، في نهاية العقد الثاني من القرن العشرين؛ تحت وطأة سنابك المجنزرات البريطانية والفرنسة والإيطالية؛ وقع العالم العربي؛ غنيمة سهلة وسائغة، بيد المنتصر الأوروبي. طبعاً تم تقسيم العالم العربي؛ كغنيمة حرب، على الدول المنتصرة؛ والتي بدورها وجدت هنالك أكثر من عالم عربي وثقافة عربية؛ وعليه قسمته على هذا المنوال. أي أن معاهدة “سايكس بيكو”، لم تقسم العالم العربي؛ ولكن وجدته مقسماً أو جاهزاً للتقسيم؛ بفضل عزل الأتراك العالم العربي، ليس فقط عن العالم ولكن أيضاً عن بعضه البعض.
مع أنه في منتصف القرن التاسع عشر وحتى العقد الرابع من القرن العشرين؛ قد ظهرت بوادر مشروع حضاري عربي؛ خاصة في مصر والشام؛ إلا أن هذا المشروع ظل مشروعا تنظيريا نخبويا. حيث لم تتشكل بالتزامن مع هذا المشروع العربي النهضوي؛ أحزاب سياسية نهضوية؛ تطبق النهج النهضوي التنويري، على الأرض، بمشاريع تعليمية وثقافية وتنظيمية وقانونية. وكان العائق في ذلك، هي نفس الدول الأوروبية الاستعمارية؛ التي سيطرت على مفاصل القرار السياسي والاقتصادي وحتى الإداري في العالم العربي؛ ولم تكن بأفضل من سيطرة الدولة العثمانية، كما كانت تدعي. مع أن إشعاعات التنوير قدمت لحواضر العالم العربي، من أوروبا؛ ولكن تم ذلك بفضل المثقفين العرب الذين ذهبوا ودرسوا هناك، وترجموا كتب مصادر التنوير الأوروبي.
وعلى هذا الأساس وجد العالم العربي نفسه؛ يكافح المستعمر الأوروبي؛ لينال استقلاله وينظم شؤونه السياسية والاقتصادية بنفسه. وحصلت الدول العربية في الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن المنصرم، استقلالها؛ وبدأت تخطط لمشاريعها السياسية؛ قبل أن تفكر بصياغة مشاريعها النهضوية والتنويرية. ومما زاد الطين بلة؛ زرع الاستعمار العالمي الكيان الصهيوني العدواني المتوحش داخل العالم العربي ودعمه بالمال والسلاح وإعطائه حصانة ضد أي مسألة قانونية دولية. والذي أشغل بدوره، كثيرا من الدولة العربية وأنهك ميزانياتها الضعيفة بالحروب والتسلح؛ والذي بسببه تم تأجيل أو إجهاض مشاريعها النهضوية.
كما أن بعض الدول العربية؛ أرهق استقرارها كثرة الانقلابات العسكرية داخلها، مما جعل تأمين السلطة هو الشغل الشاغل للأنظمة ولو أتى على حساب، المشاريع النهضوية والتنويرية، والتي هي جزء من خطابها الرسمي. ولكن في الحقيقة هي تعيش عملية قمع مستمر لشعوبها؛ أجهز بالتالي على أي أمل بالمشاريع النهضوية والتنويرية. كما أن بعض الدول العربية؛ بفضل تراكم الجهل والتخلف والتعصب فيها؛ جعل تقديم أي مشروع نهضوي، تهديدا لاستقرار أنظمتها.
ولذلك برزت في العالم العربي، بوادر مشروعين؛ مشروع تقليدي، ليس بحاجة لا إلى تفكير ولا تنظير؛ حيث هو سائد منذ ألف وخمسمئة سنة؛ وهو المشروع “الإسلاموي” السياسي؛ ومشروع تنموي نهضوي تنويري، يحتاج إلى تنظير وتقعيد وتأطير، لم تقدمه كمشروع أنظمة؛ ولكن أفراد من النخب الثقافية وبعض الأحزاب التقدمية الصغيرة والمتوسطة. طبعاً وجد المشروع السياسي الإسلامي، نفسه يسيطر ويخيف الأنظمة؛ عديمة المشروع النهضوي؛ والتي بدورها تبنت المشروع السياسي الإسلاموي وجاملته ودعمته من أجل ألا يصيبها بشرر أو ضرر.
ومشكلة أصحاب المشروع الإسلاموي؛ أنه غير واقعي؛ حيث هو حقبة تاريخية، ولت وانتهت؛ ولا يمت للواقع السياسي والحضاري بصلة؛ وذلك لكون الدين دينا؛ والسياسة سياسة؛ وكما قال أحد قيادات المشروع النهضوي العربي؛ الشيخ محمد عبده “لعن الله السياسة، ما دخلت في شيء؛ إلا أفسدته”. كما أن الفكر الديني؛ في ظل المنافسة السياسية، الداخلية أو الخارجية لأي نظام؛ يضيق ولا يتسع. حيث المشروع الإسلاموي وهمي وغير تاريخي؛ ولذلك وصل المشروع العربي، بفضل المشروع الإسلاموي أو منافسة المشروع الإسلاموي؛ إلى قاع الحضيض.
حيث أصبح إعلان، شخص دموي وموتور ومهووس، لا يعلم أحد اسمه الحقيقي؛ قيام الخلافة الإسلامية؛ حتى هلل وكبر له الملايين؛ وأخاف أنظمة ودولا عريقة. عندما حققت داعش نصرا ولو غير حاسم؛ في السيطرة على الموصل؛ كبر وهلل الملايين، على رأسهم مشائخ رسميون محسوبون على أنظمة، وعد ذلك نصرا للإسلام والمسلمين؛ كما هلل للنصر الداعشي المزعوم؛ كتاب صحف يحسبون على التيار العقلاني؛ وعد ذلك ثورة شعبية. هذا نتيجة تداخل الأشياء ببعض؛ وأصبح الغبش يغشى معظم العيون؛ وذلك لغياب المشروع النهضوي العربي.
الخطر محدق بكل الأنظمة العربية القائمة؛ إن لم تحدد لها مشروعا نهضويا تنويريا، تطرحه على الأرض بسرعة تسابق الكتائب الداعشية؛ لأن في قلب كل مواطن داعشي صغير؛ ينتظر اقتراب كتائب داعش لينقض على من حوله. وذلك بسبب الفراغ الحضاري الذي يعيشه؛ أصبح أسيرا للماضي وعدوا للحاضر. الخيار هنا خياران لا ثالث لهما؛ إما أن تبايع الأنظمة العربية القائمة، البغدادي خليفة للمسلمين؛ وإما أن تطرح وبكل جدية، مشروعا نهضويا مدنيا تقدميا تنويريا بدون أي تأجيل. بالمناسبة؛ داعش لن تصل سواحل ولا حدود، دولة الإمارات العربية المتحدة؛ ولا إمارة دبي بالتحديد؛ حيث اختاروا، مشروع الوثوب للمستقبل؛ بدل الوثوب للماضي، أو التأرجح في الوثوب بين الماضي؛ والمستقبل؛ والسقوط تحت سنابك جيوب داعش رباعية الدفع.
المصدر: الوطن أون لاين