كاتب سعودي
كتبت أكثر من مرة عن الجنادرية، وأسميتها بالقلعة، وأنا مصر على تسميتها بالقلعة، وأعي حق الوعي، لماذا أسميتها بالقلعة؟ حيث عملت الجنادرية منذ تأسيسها قبل 28 عاما، كقلعة ليس فقط لعرض تراثنا وفنوننا الشعبية، التي تمثل الذاكرة الوجدانية لجميع مناطق المملكة، ولكن أيضا لتطويرها والحافظ عليها كجزء عزيز من تاريخنا الجمعي التراثي والفني. إن من أول الكوارث التي تصيب الشعوب، وهي لا تشعر، هو فقدانها لذاكرتها الجمعية الفنية البصرية والسمعية، التي تميزها عن غيرها. والشعب الذي يفقد ذاكرته وذائقته التراثية، والتي تمثل بالنسبة له، مخياله الشعبي وذاكرته الوجدانية، يفقد توازنه الحضاري أو المدني، ويتحرك للمستقبل بخطى مهزوزة، غير واثقة، ويصبح قابلا للحرف عن جذوره الوطنية بفقدانه صمغه الوجداني الوطني المحايد.
الحالة المدنية لأي مدينة هو إبراز تراثها المعماري والثقافي، وجعله ميزة خاصة تتمتع بها دون غيرها من المدن، هذا بجانب استخدامها لأحدث ما توصلت إليه المدنية من تقدم وتقنية في مضمار المعمار وتخطيط المدن، ومواصلاتها ومرافقها الخدمية العامة والخاصة، والتي بدورها قد تمحو الذاكرة الجمعية شيئا فشيئا. المدنية لا تنطلق من فراغ، وإنما من ذاكرة ثقافية تتأسس عليها، وتصبح بوصلتها في الحفاظ على جماليات المكان ونبضه التراثي والفني، اللذين رافقاها لعدة قرون خلت. المدنية دوما تحرص على إحضار ذاكرتها الثقافية الخاصة بها، من خلال طراز معمارها، ومتاحفها ومعارضها ومهرجاناتها الفنية والتراثية، التي تحرص على إقامتها دوريا، لتكون حاضرة في أذهان الأجيال المتتالية. إذاً فالمهرجانات التراثية، برغم كونها صيانة للذاكرة والذائقة الجمعية، هي جزء من الحالة المدنية لأي مدينة عندما تقطع مشوارا طويلا في عملية التحديث، حتى لا تنقطع عن ذاكرتها الجمعية الوجدانية.
وبما أن المهرجانات التراثية هي إحياء للوجدان الجمعي، تكون الفعاليات الفرائحية، التي تمثل الذائقة البصرية والسمعية للمدينة أو للبلد، جزءا لا يمكن أن تتخلى عنه المهرجانات، بل يكون جزءا رئيسا من فعالياتها، وإلا لن يكون مهرجانا، بل أي شيء آخر. إذاً فالمهرجانات التراثية ترمز لمعطيين على أرض الواقع، وهما إحياء الذاكرة الجمعية، المحايدة، التي لا تنتمي لأيديولوجيا عقائدية ولا لتحزبات سياسية، إذ هي تعبر عن نبض الماضي، المعبر بدوره عن وجدان إنسانه، الممثلة له بكل تجرد وعفوية. إذ التراث نتاج جغرافية المكان، وأسلوب معيشة إنسانه، وبنفس الوقت، مظهر من مظاهر المدنية التي تعيشها المدينة. إذاً فلماذا يغضب البعض من المهرجانات؟!
أولا لكون الجنادرية تمثل قلعة حصينة وسدا منيعا أمام أي عملية محو للذاكرة الجمعية وإفراغها من معينها الوجداني، وتعبئتها بأدلجة مسيسة، تتلحف بلحاف الدين. وذلك بتدشين مقولة، أن مجتمع الآباء والأجداد، ليس ببعيد عن المجتمع الجاهلي. وهذا مناقض للنظرة الدينية للحياة، والتي تعتبر أن خير القرون أولها. وبمقولة أن الإسلام هو تراثنا، وهذا خطأ كبير بحق الإسلام، فالإسلام هو دين، أي هو ديننا، الذي نحافظ عليه، لا من أجل الماضي ولا من أجل المستقبل، بل من أجلنا ولأجل صلاح آخرتنا ودنيانا في أي زمن أو مكان كنا. التراث قد يندثر مع تقادم الوقت، ولكن الدين لا يندثر، أي دائم الحضور، ولذلك فمن يشبه الدين بالتراث، يشبه الباقي بالزائل. وعلى هذا الأساس فجميع الشعوب الإسلامية تدين بالإسلام كدين جامع لها، وبنفس الوقت، كل منها يهتم بتراثه الخاص به، الذي يمثل ذاكرته الوجدانية، التي بدورها تميزه عن غيره من باقي الشعوب الإسلامية، وغير الإسلامية.
إن محاولة إفراغ أي شعب من ذاكرته الوجدانية الجمعية، لا يتم إلا لغرض ملئها بأيدولوجيا مسيسة، وقد ظهر ذلك جليا، في أداء الحركات العربية الإسلاموية، والتي تحولت لأحزاب سياسية، تتصارع مع بعض للتسلق للسلطة، بعد أن كانت تطرح نفسها كجمعيات دعوية وخيرية، بعيدة عن المكاسب الدنيوية، ناهيك عن المكاسب السياسية، كما كانوا يسوقون لأنفسهم “دعاة لا قضاة”. والجنادرية تقوم بدور القلعة، والحصن المنيع، للحفاظ على الذاكرة الوجدانية الجمعية السعودية وصيانتها، وجعلها دوما حاضرة وموجودة؛ لحمايتها من عبث ونزق أيديولوجيا التسييس؛ ولذلك فكل عقائدي مؤدلج، من الطبيعي أن يكره الجنادرية. لا أحد يصادر حق أي تنظيم من دخول المعترك السياسي، سواء كانت خلفيته دينية أم علمانية، ولكن بشرط أن يسمي الأشياء بأسمائها، منذ البداية حتى النهاية.
ثانيا: كون المهرجانات التراثية الفرائحية، تمثل الحالة المدنية بامتياز، والحالة المدنية بدورها تخيف كل رمز كان يمثل الحالة الماقبل مدنية “البلدة، القرية، القبيلة”، وما زال يتمتع بوجاهتها المادية والمعنوية. وبما أن مرحلة ما قبل المدنية لها رموزها ورجالها، فكذلك للحالة المدنية رجالها ورموزها، الذين يمثلونها خير تمثيل. وهذا بدوره يفقد أصحاب ذهنية الماقبل مدنية حظوتهم الاجتماعية، التي كانوا يتمتعون بها، شيئا فشيئا، لصالح رموز المدنية، رموز المجتمع الجدد، من مسؤولين ورجال وسيدات أعمال، ومثقفين وكتاب وفنانين ورياضيين، وأدباء حداثيين وحتى شعراء شعبيين مجددين.
ولذلك فرموز ماقبل المدنية، يحاولون وسيحاولون، إيقاف أي فعالية اجتماعية مدنية، مثل المهرجانات ومعارض الكتب، والمسارح والسينماءات والمتاحف والأشكال الجمالية، وسيتصدون لها؛ من أجل إبطاء سحب ما يتمتعون به من وجاهة مادية ومعنوية، اكتسبوها كرموز للحالة الماقبل مدنية، لصالح رموز الحالة المدنية الجدد. وبالطبع محاولة تشويه أي فعالية مدنية، لا يكون بالتشكيك في وطنيتها، لأن هذا غير ممكن، كون وطنيتها حاضرة بالغطاء والدعم الرسمي؛ ولكن بالتشكيك في ورعها الديني، وهذا ممكن كونه حكما على غائب.
إذاً فالوقوف ضد مهرجان الجنادرية، هو نتاج دوافع أيديولوجية أو سيكلوجية، وليست بأي حال من الأحوال دوافع دينية، أو وطنية، ولو حاولوا إقحامها تعسفا بالاحتساب. فهجمتهم على مثل هذه الفعاليات المدنية هي حملة تشويه مسعورة ومتعمدة مع سبق الإصرار والترصد، إذ يستخدمون الكذب والتدليس والتشويه والتهويل والتزوير، وما شابه ذلك من أدوات محرمة بالشرع أصلا، فضلا عن استخدامها لفرض شرعي، فشرع الله ليس بحاجة لكذب وتدليس وتزوير وحقد خلقه. ثم إن هنالك مؤسسات رسمية وغير رسمية، تحمل الطابع الديني، ويديرها من ينتسبون لطلبة العلم الشرعي، يشوبها ما يشوب غيرها من الفساد المالي والإداري، وهي أولى بالاحتساب لتنظيفها من الفساد، لا التغاضي عنها أو التبرير لها، إذ إن من أولويات المحتسب الحقيقي، هو احتسابه على نفسه قبل تجشمه عناء الاحتساب ضد الآخرين. إذاً فأي مؤسسة تحمل الطابع الديني، يجب أن تكون مراقبتها والاحتساب عليها، ذا أولوية على غيرها، كونها لا تمثل فقط مؤسسة رسمية أو غير رسمية، وإنما أيضا، تنسب للدين، وأي فساد يتم فيها، قد يسقط على الدين نفسه، والمتدينين أنفسهم.
إذاً فالوقوف المتكرر ضد الفعاليات المدنية وعلى رأسها الجنادرية، هو نتاج مواقف أيديولوجية أو سيكولوجية، “نفسيه”، لا حمية دينية ولا احتسابية، كما صرح بذلك بيان المتحدث الرسمي لمهرجان الجنادرية، عن حادثة الهرج والمرج التي أحدثت في جناح دولة الإمارات العربية المتحدة الضيفة على المهرجان، عندما ذكر العبارة التالية: “.. وكان تصرفه فرديا لغرض في نفسه”.
المصدر: الوطن أون لاين