كاتب إماراتي
بكثير من التواضع لطالما كنت أروي لأصدقائي أنني أحد أفضل ثلاثة صائدي سمك منذ اكتشف الرجل الأول إمكانية صيده وطهيه، وبالطبع اثنان من الثلاثة ماتا بالحصبة الألمانية بدايات القرن الماضي.
جربت الصيد في نهر كابول المتجمد، وجربت الصيد في بحيرات تشيلي، وفي نهر دجلة، وأنا أغنّي «في نهرنا سمكٌ.. يشوى على النار»، وفي البحيرات الأميركية الكبرى، وفي نهر الأمازون، وفي بحر قزوين، الذي قطع أرحامه مع بقية البحار، بعد أن آتاه الله مالاً وولداً، وفي خليج المكسيك، وفي النيل من شماله إلى جنوبه، أحياناً البعض يعتقد أنني أبالغ حين أخبره بأنني حدقت حتى في فوهات البراكين الخامدة في تايلاند، والبعض يدمدم بـ«استغفر الله» حين أقول له إنني أحببت ذلك السمك الذي اصطدته في خليج الخنازير!
لكن حين تتراءى لك الأربعين قريبة كعابثة تخرج لسانها وتضحك مظهرة سنّاً ذهبية ماجنة، فإنك تتمنى عندها لو ذهبت إلى دير بعيد لا تعرفك جدرانه، واعترفت لأحدهم بكل ما اقترفت يداك! كم أتمنى أن أعترف لمن لن يفضحني بأن كل ما اصطدته في حياتي كان سمكتين، الأولى في جزيرة حبلين، حين طلب مني أحدهم أن أمسك بخيطه إلى أن يقضي حاجة ذهب لها، والثانية كانت في بحر عجمان الحبيبة، الذي لم يحب أن يردني خائباً فتصدق عليّ بسمكة يمنع حجمها أن يكون صيدها مشرّعاً بحكم القانون! فأصرّ صديقي نصير «الغرين بيس» بأن أقوم بإعادتها إلى الخليج.
أعترف بأن كل بطولاتي كانت كاذبة، وكل صوري كانت «فوتوشوب» عن سبق الإصرار والترصد، لم أنجح في حياتي حتى بصيد «بوكيمون»، لكنها كانت الرغبة في أن أقنع نفسي بأنني لا أختلف عن الآخرين، وأن السمك يحبني كما يحبهم، كلما سمعت أحدهم يصرخ في الطراد: اهااااااا، أركض باتجاهه لأكون أول من يخرجها، وأرسم حبتين وأنا أضع صورتها معي على موقع ما! وفي أحيان معينة إذا كانت كبيرة الحجم فعلاً أحاول أن أمسكها على طريقة أبناء الأسر الأرستقراطية.
«إن التشبه بالكرام فلاح»!
مرّت سنوات العمر وأنا أتجاهل قضية المهارات، تلك الأمور التي تجعل أحدهم يقوم بشمّ الهواء كأي موظف من فئة k9 ويعرف من الرائحة أماكن وجود الأسماك، ولم أتقن كآخرين مهارة قراءة الرادار البحري الغريب بطريقة صحيحة، ولا كنت كالبعض الذي يسترجع خبرة الأولين من معرفة وحنكة وصداقة مع البحر، ومرت سنوات أخرى وأنا أفسر قضية الأرزاق والحظوظ من منظوري، وبقيت الحصيلة سمكتين، عادت إحداهما إلى البحر! عنادي كان عناد أي شخص صرف مبلغاً على شراء شورت وصنارة، ودفع القطية الخاصة بالطراد، ولهذا فهو يرفض الاعتراف بأن هذا ليس مجاله، ويستمر بالمكابرة في مجال لم يُخلق له ولا ينفع له! الأمر أشبه بامرأة خرفنت أحدهم، وبعد سنوات من الخرفنة أصرّ على إكمال المشوار، رغم أنه كرهها وكره أهلها، إلا أنه يرفض الانسحاب فقط لكي يقنع نفسه بأنه لم يكن خروفاً.
من الصعب أن تكتشف أنك «مخرفن» حتى من سمك البحر!
قديماً قال الحكماء إن إيقاف الخسارة مربح، ولا تناقض بين علو الهمة والنهوض بعد السقطات، وبين تغيير الخيارات التي سيرتنا لسنوات في بحور مظلمة. هناك دائماً وقت كافٍ لتقف على السيفة، وتخرج زفرة عميقة، وتعترف بأنك فاشل في مجال ما! لا تتقنه، رزقك غير مكتوب فيه، ليس لك، غيّر مجالك، واقلب الصفحة يا أخي، قبل أن يقول لك أحدهم: اقلب وجهك!
البحَّارة لا يتناولون أقراص «الديزينيل»! فهل تفعل أنت؟!
المصدر: الإمارات اليوم