كاتب إماراتي
للمكان ذاكرة وشخوص وحكايات وتاريخ يُروى، وتعتمد قصة الأمكنة على الأثر الذي تتركه في إنسانها، أو في ذلك العابر الذي مر بها سائحاً أو مقيماً بها لحظات من عمره، ماذا أضافت له، وكيف سكنت الصورة دواخله، وفي أية زاوية احتفظ بها؟ في زمن ما، كانت «الذيد» المكان، واحة خصبة غنية، يعرفها أهل الإمارات، صورتها ارتبطت بالنخيل والماء والنوق و«الغافة» وعراقيب الرمال وسحر تموجاتها وصفاء البداوة، فكانت عامرة بالناس في كل أوقاتها، وتحتفل بهم على طريقتها في موسم «القيظ» وفي نهايات الأسبوع وسط جنانها وخيرات أرضها.
مثّلت مرحلة تاريخية مهمة من عمر الدولة ومسيرة نهضة الزراعة وتطورها، وكذلك بالنسبة لذاكرة الذين سكنوها أو حملوا منها بقايا أثر، فالذيد قصة طويلة وجميلة عند كل من عرفها، ورغم أن تلك البساتين الخضراء أصابها العطش ومات نخيلها بعد صبر وانتظار وهي واقفة شاهدة على تاريخ المكان. بقيت مجرد جذوع يابسة وخرائب وحسرة على ذلك الزمن الغني.
خلال مرحلة بدايات قيام الاتحاد كانت الذيد هي مركز المنطقة الوسطى التي تساوي في موقعها الاستراتيجي كبريات مدن الدولة، فكانت أكبر محطة توليد كهرباء تخدم المناطق العديدة والمتفرقة هناك تستقر في جنباتها، وكذلك أكبر مستشفى، ومحطة مطافئ ومركز شرطة، وفي مرحلة الثمانينيات تأسست المنطقة التعليمية الوسطى فيها. وكانت فيها يوماً المدرسة الثانوية الوحيدة التي جمعت طلاب المناطق المجاورة، وكانت منطقة للتسوق والبيع وفيها كل ما يبحث عنه جيرانها.
وفي السبعينيات مثلاً، كانت تعد أشهر ملتقى سياحي وثقافي للشخصيات البارزة والتجار وضيوفهم في استراحات مزارعهم بموسم العطلات. كما تحكي الصور التاريخية حكاية واحد من أشهر مجالس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه مجلسه فيها والذي كان يسكن قلب الواحة، وكان رحمه الله يزوره في المناسبات المختلفة ويقبل عليه شعبه فرحاً بتلك اللقاءات التاريخية.
اشتهرت «الذيد» بنخيلها وجوها وذكرياتها، وكذلك بإنسانها الذي عاش ولا يزال على أجمل ما في البدوي من صفات النبل والكرم والنخوة ومحبته للناس وإخلاصه لقائده وللأرض التي ينتمي إليها… لهذا عندما تبدّل وجه الحياة وأقبلت ثورة البناء بقوة وتحققت أحلام التطور والتحديث، كان إيمان وفكر صاحب السمو حاكم الشارقة أن يحدث كل ذلك في مختلف مناطق الإمارة، لكنه سعى في الذيد أن يسعد إنسانها ويوفر له الاستقرار والحياة الكريمة ولكن أن لا تشوه المدنية طبيعة الذيد وأصالتها، فقرر أن يبقيها بعيدةً عن زحف التلوث والغابات الإسمنتية وضجيج المدن العصرية.
وعندما حرص الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة أن يزور الذيد في المناسبات المختلفة وأن يلتقي بالمواطنين فيها، ينقل لهم تحيات واهتمام صاحب السمو رئيس الدولة حفظه الله، وحرص الدولة على توفير سبل الحياة الكريمة، والسؤال المباشر عن أحوالهم، وكذلك الاستماع إلى مطالبهم وآمالهم، كان يعلم أنه يختار منطقة وسطى لها مكانة عزيزة في القلوب. وعندما زارها هذا العام كنت تشاهد منظراً لا يتكرر كثيراً في هذه المدينة الصغيرة، لأول مرة زحام طويل ومتواصل منذ الصباح وحتى المساء، يمتد من دوار «السويح» إلى دوار «مصبح» كما اشتهر بهذا المسمى بين الناس. صورة لا تتكرر إلا في العيدين. وهذه المرة جاءوا من مختلف مناطق الدولة لرؤية سمو ولي عهد أبوظبي والسلام عليه والترحيب بسموه. أكثرهم تعنّا رحلة الذهاب لهذه الغاية، وبعضهم جاء لحاجة؛ يبحث له أو لنجله عن عمل، أو لطلب سكن… وغيرها من متطلبات الحياة. كما حرِصَ سموّه أن يزور بعض الأهالي ويلتقيهم في فرجانهم ووسط أهاليهم، فأن يشرب الشيخ قهوته في مجلس أحدهم فهذه ستكون ذكرى تاريخية جميلة لا تنسى في حياة الفرد والقبيلة.
اللقطات المصورة لأيام الزيارة تبرز كثرة الشباب الذين احتضنهم مجلس سموه، وهي ظاهرة ملفتة أن يحرص هؤلاء الذين نسميهم جيل السينما والمولات والبلاك بيري و«الهوامة»… على الحضور لمجلس الشيخ وممارسة معاني الرجال ومخالطتهم، ما يعني تطوراً سلوكياً ساراً وتغيراً في الصورة التي رسمناها لهم، وقبل هذا وبعده يعني ذلك أهمية اللقاء بالنسبة لهم، وتغريداتهم في وسائل الإعلام الاجتماعي عن هذا الملتقى وغيره تبرز مكانة محمد بن زايد في قلوبهم. وهي مكانة أوجدتها علاقة تبادلية، تقوى بالتجارب والتقارب، فتشعر أن سموه قربك كريماً معك يبادلك المحبة، فطريقة المصافحة والنظرة والابتسامة والسؤال… ومجمل الكاريزما التي يتمتع بها جعلت سموه قدوة ونموذجاً لجيل جديد يحتاج إلى المثل وإلى من يهتم به ويقرّبه. وفي زيارته الأخيرة للذيد، مرت حادثة لم يسمع بها العديد منا، لكنها عند أهالي تلك المنطقة كانت تعني الكثير لهم؛ فبينما كان سموه يزور أحد المواطنين هناك، وقفت طفلة من بعيد تسلم عليه، خاطبته قائلة: «أتمنى أن تزورنا في مدرستنا»، وكان ذلك في اليوم الأخير لزيارته، تبسّم لها ووعدها خيراً، وكان يكفيها ذلك. في صباح اليوم التالي فوجئت مديرة مدرسة البنات برجل يقف وسط المدرسة ،كان ذلك سمو الشيخ محمد بن زايد، ارتبكت فلم تكن تعرف عن تلك الزيارة ولا تتوقعها. سأل عن الطالبة والتي كانت ذاهبة في ذلك اليوم برحلة مدرسية. استفهم منهم سموّه عن سير الدراسة وعن حال الطالبة وعن احتياجات المدرسة، وكان طلب جمهور المدرسات الذي تجمع بسرعة: صورة تاريخية لسموك في مدرستنا. شخصية في وزن ومشاغل محمد بن زايد يلبي طلباً لطفلة فيزورها في مدرستها ويسأل عن حالها… كم وزيراً أو مسؤولا حاول القيام بواجبه وزيارة الفريق الذي يعمل معه؟ الإجابة قد تكون صعبة لو أجرينا استبياناً في مختلف الوزارات والدوائر والمؤسسات. كم ولي أمر، طلب منه ابنه أن يزوره في مدرسته، أو بادر هو للاطمئنان على أحواله الدراسية والتربوية… اسألوا أنفسكم!
المصدر: جريدة الاتحاد