كاتب إماراتي
بينما أنا مشغول بالرد على مكالمة هاتفية وإرسال رسالة نصية، رفعتُ رأسي وإذا بسيارتي تنحى تجاه كتف الطريق الذي سَدّتْهُ شاحنة ضخمة. اغتالَ المكانَ صمتٌ مُطْبِق، وشعرتُ بأنها النهاية.
اخترتُ حينها التفكير في شيء واحد، أطفالي على وجْه الخصوص، وأحسستُ بأن الثواني القليلة المتبقية لي يجب قضاؤها في شيء جميل.. لا أُريد لنهايتي أن تكون مأساوية – هذا ما دار في بالي – قد تكون كذلك لمن سيبكون بعدي، ولكن بالنسبة لي، أردتُها أن تكون ذكرى جميلة.
وبينما أنا أتمعّن في وجوه أطفالي الصغار، وأبتسم مُتذكّراً وجه أحدهم وهو يضربني في بطني بالأمس مشتكياً من غيابي عن البيت وكثرة انشغالي، شعرتُ بيدي اليُسْرى تُدير المقْود بهدوء لتعيد السيارة إلى نصابها قدْر المستطاع إلى أن تجاوزت الشاحنة، فشعرتُ بأنني بُعثْتُ من جديد.
رميتُ هاتفي وتعلّقتُ بالمقود كالموشِك على الغرق فوجد فجأة لوْحاً خشبياً طافياً على سطح المحيط. أخذتُ نفساً عميقاً، ثم خَرَجَت من صدري زفْرة طفل وُلِد قبل قليل.
قضيتُ اليوم كله وأنا أفكّر في النهاية، ولكي أصدقكم القول، فإن هذه الفكرة لم تُغادرني منذ زمن.
فكلما زُرتُ متحفاً، أو مَعْلماً أثرياً، أقف على سؤال مُحيّر: لماذا انشغل الإنسان دوماً بنهايته وحاول تخليد ذكراه؟ لماذا تَقُضّ فكرة النهاية مضجعه؟ ولستُ أتحدث عن الخوف من الموت، فذلك أمر فِطْري، ولكنني أقصد الخوف من غياب ذِكْره بين الناس بعد رحيله.
أعود إلى الآثار والمتاحف وأضيف إليها الكُتُب: ماذا سيستفيد أحدنا عندما يُخبِرُ من يأتي بعده أنه كان هنا؟ أنه كتب هذا الكتاب؟ ورسم تلك اللوحة؟ ونحت ذلك التمثال؟ وأسقطَ ذلك الحصن؟ وهزم ذلك الجيش؟ لماذا نريد للناس أن تعرف أننا مررنا من هُنا رُغم أننا، ربما، لن نُدرك ذلك ولن نستمتع به؟
يقول الفرنسيون: «إذا أردتَ أن تعيش سعيداً فعِش مُخْتَبئاً». وتقول حكمة أخرى: «إذا أردتَ أن تعيش سعيداً فعِشْ يومك».
ولكن حتى الذين يؤمنون بهذه الأمثال لا يستطيعون أن يعيشوا مختبئين، مغمورين، لا يعرفهم أحد؛ فحُب التقدير والشهرة، وإن كانا على نطاق ضيق، شهوات إنسانية مَحْضة، كالنوم والأكل.
ورغم أن كثيراً من الناس يقرؤون كتب السعادة والتنمية الذاتية، التي تشترك غالبيتها في فكرة عَيْش اللحظة الآنية، إلا أنهم لا ينفكّون يعيشون بين الماضي والمستقبل، أما لحظتهم التي يعيشونها فلا تعدو كونها محطة بنزين، يمرون عليها، مُضطّرين، ليعودوا إلى سباقهم على الطريق السريع.
ففي القصص والأفلام التي تحكي عن «آلة الزمن» لا يوجد من يُفكّر في تثبيت الوقت، بل يرحل الأبطال إما إلى ماضٍ سحيق ليعرفوا حقيقة ما، أو يغوصوا في مستقبل مجهول ليكتشفوا ماذا خُبِّئ لهم. ورُغم جمال فكرة تجميد عقارب الساعة، إلا أنها لا تروي عطش الإنسان للبحث والاكتشاف.
أعود إلى فكرة الخلود وأتساءل: لو عرف هولاكو أن العالم لن يأبه به وبإمبراطوريته في عام 2014 فهل كان سيخوض كل تلك الحروب ويهدر كل تلك الدماء ليُصدّر اسمه في قائمة مشاهير التاريخ؟ ولو تسنّى لأرسطو أن يُسافر إلى عامنا هذا وينظر إلى الفائدة «الشخصية» التي ستدرها عليه مباحثه العلمية وفلسفاته، ثم عاد إلى زمنه، فهل سيستمر في بحثه وتأليفه، أم سيغوص في ملذات القصور والانتفاع بقربه من السلطة؟
أكتب إليكم وأمامي مكتبتي التي تفيض بكتب في شتى مجالات المعرفة، ولا يوجد بينها كتاب واحد لا يحمل اسم كاتبه؛ فأسماؤهم تُطرّز الأغلفة الخارجية والداخلية، وأحياناً تبدو أكبر من عناوين الكتب! إذاً، هم لا يكتبون لكي يُنيروا العقول، ويستثيروا الأفكار، ويُرشدوا الحيران، ويُوسّعوا المدارك فقط..
كلا، إنهم يكتبون ليقولوا لنا: تذكّرونا، كُنّا هنا، مررنا قبلكم، فكّرنا ودرسنا وبحثنا وسهرنا وكافحنا وناضلنا، ومن حقّنا عليكم الآن أن تقرؤونا.
عندما وضع نابليون حجر الأساس لبناء قوس النصر، أراده أن يكون صرحاً لتخليد انتصارات جيوشه.
ولكن، لو عاد الآن نابليون ورأى أعقاب السجائر تحت أعمدة القوس، والسياح وهم يتسابقون في البصق من فوقه على التماثيل المنحوتة عليه، فكيف سيشعر؟ هل كان سيبنيه؟ بل هل كان سيخوض حروبه تلك؟ انتهى نابليون وانتهت معاركه بانتصاراتها وهزائمها، وتغيرت خارطة أوروبا التي أرادَ رسمها على هواه، لكنه فشل، ككل قادة التاريخ، يفتحون المدن ويُسقطون الحصون ويبنون الممالك..
ثم في لحظة، يرحلون ولا يبقى من فعلهم، بعد سنين، سوى صفحات في كتب التاريخ.
لماذا هذا كلّه؟ لماذا نُحب الخلود دون أن نفهمه؟ لماذا نخشى النهايات دون أن نُدرك حقيقتها؟ رغم عجزنا أمام هذه المفاهيم، فإن الفناء لن يُجرّدنا من إرادتنا، والنهايات لن تسلبنا أحلامنا، إن تقبّلنا أن سعادتنا تكمن، في أحيان كثيرة، في هشاشتنا البسيطة.
المصدر: البيان