كاتب وصحفي لبناني
تحت وطأة الأوضاع العربية الراهنة، لاسيما ذاك الإحباط المتفشي بسبب النتائج التي أفضت إليها ثورات «الربيع العربي» في غير بلد، ثمة ميل عربي متعاظم إلى مراجعة «تاريخنا» مأخوذاً بالجملة كقطعة واحدة لا تقطُّع فيها ولا انقطاع، وذلك بحثاً عن مسؤوليةٍ ما يتحملها هذا التاريخ عما آلَ بنا إليه من تردٍ.
ويُلحَظ في عموم هذه المراجعة، وهي لا تزال في بداياتها على أية حال، وجود ثلاثة أصوات مختلفة يركز كلٌ منها على حقبة تاريخية بعينها وينظر إليها بوصفها مصدر ما نعانيه.
فهناك من يذهب إلى تاريخ ما قبل الاحتكاك بالغرب، وهذا زمن مديد جداً ينطوي على حقب عدة ليست بالضرورة متجانسة في وجهتها أو في المعاني المفضية إليها، بل هي متنافرة في الكثير من وجوهها. وإنما بسبب هذا التنافر في أمور عدة، يسهل توحيد ذاك التاريخ بالإسلام، كونه العقيدة الجامعة على امتداد الحقب تلك، والأساس الذي ارتكزت إليه على نحو أو آخر محاولات الهندسة الاجتماعية والسياسية التي جرت تباعاً. وعلى نحو وثيق الصلة بالثقافة، يمكن التوقف عند نظام القرابة العربي وقيامه على عصبية الدم، مما زاد في التضييق المديد على نشأة مجتمع سياسي يتقدم فيه المواطنون الأفراد بوصفهم كذلك.
وما من شك في أن ما عزز ويعزز هذا اللون من النقد صعود حركات الإسلام السياسي الراديكالية كجبهتي «النصرة» و«داعش»، وتوسع نفوذها ونطاقها، وهي التي تجمع بين تأويل للدين حَرفي ولم يمسه أي إصلاح وبين تعبير عن تضامن أهلي بين جماعات عشائرية في العراق وفي سوريا.
وهناك، ثانياً، من يذهب في حرارته النقدية إلى حقبة الاحتكاك بالغرب التي بدأت مع حملة نابليون على مصر في السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر لتصل إلى ذروتها مع الاحتلال البريطاني لمصر في 1882، ثم الانتدابات الأوروبية في المشرق العربي التي تلت الحرب العالمية الأولى. فالغرب، بحسب وجهة النظر هذه، هو الذي صاغ المنطقة وإن اقتصر استعماره المباشر على فترة قصيرة نسبياً.
وفي هذا المعنى يشار إلى الدور السلبي الكبير الذي لعبه قيام إسرائيل عام 1948 في موقع القلب والوسط من العالم العربي، بدعم من الغرب بشقيه الرأسمالي والشيوعي، كما يشار إلى اعتماد الاستعمارين البريطاني والفرنسي على أبناء الأقليات الدينية والمذهبية في المؤسسات والإدارات والجيوش التي أقيمت في البلدان العربية.
ويزكّي هذا النقدَ أن الصراعات الراهنة، بما فيها الحرب الإسرائيلية- الفلسطينية المفتوحة اليوم في قطاع غزة، قابلة للتأويل بوصفها نزاعاً بين الأكثرية المسلمة السنية العربية وبين أقليات دينية أو طائفية أو إثنية موجودة في موقع نافذ ومتمكّن. وهو أمر ليس من الممكن فهمه من دون الرجوع إلى الصياغات التي صاغها المستعمران الفرنسي والبريطاني.
أما الصوت النقدي الثالث فينشدُّ إلى حقبة ما بعد الاستعمار، أو زمن الاستقلالات، مركزاً عليها. ذاك أننا هنا نواجه انقطاعاً عن الاستعمار يستحيل من دونه فهم الاستبداد الذي هو مفتاح أوضاعنا المأزومة. فالاستقلالات التي ما لبثت أن اصطبغت بالانقلابات العسكرية، هي التي عطلت العمل بالدساتير كما أغلقت البرلمانات وأمَّمت الصحافة الحرة وربطت النقابات بأجهزة الدولة، أي أنها ضربت كل ما هو إيجابي وإنجازي مما أنشأه الاستعمار. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، إذ تراجع التعليم على أيدي الأنظمة المذكورة ولم تحظ الصحة أو البنى التحتية بالعناية التي تستدعيها مواكبة التحولات في أعداد السكان.
ويوفر النجاح النسبي للثورة التونسية قياساً بالمآلات التي انتهت إليها الثورات العربية الأخرى حجة لأصحاب وجهة النظر النقدية هذه. ذاك أن تونس، وبفضل البورقيبية التي قادت عملية الانتقال إلى الاستقلال وأرست مرتكزات الحياة العامة لتونس المستقلة، لم تقطع مع الحقبة الاستعمارية، أقله لجهة التعليم والعلمنة وموقع النساء في المجتمع وتوسع الطبقات الوسطى.
وما من شكّ في أن كل واحد من الأصوات الثلاثة ينطوي على بعض الصواب، تماماً كما أن الاندفاع مع كل منها إلى نهاياته القصوى يؤدي إلى مبالغات وأخطاء تضفي الجوهرانية والثبوت على ما تنقده.
فالصوت الأول، فضلاً عن خطر وقوعه في التعميم، بل الجوهرانية أحياناً، يترك أموراً كثيرة معلّقة، منها أن نظام القرابة، من خلال «صحوات» العراق وبعض العشائر السورية والعراقية، بدا الشيء الوحيد المتوافر لجماعاتنا في مواجهة «القاعدة» و«داعش» و«النصرة» وأمثالها. وكذلك يغيب عن الانتباه أن التوحش الآتي من بطون التاريخ، كما تعكسه تلك الحركات، معزز بحداثية أداتية وتنظيمية رفيعة (الحركة نفسها، السلاح وما يمليه من تراتبية، الاستخدام الموسع لوسائط التواصل الاجتماعي).
أما الصوت الثاني، المؤهل دوماً للوقوع في براثن الوعي التآمري، كما في الدفاع عن أصالة أو عن براءة منسوبتين إلينا، فيتجاهل أن الأكثريات السنية والعربية هي التي استنكفت عن المشاركة في العالم الذي صنعته الوفادة الاستعمارية لأوروبا. أما فيما خص نشأة إسرائيل، فيتم التغاضي عن الاستعداد الفلسطيني المنخفض يومذاك لإقامة دولة- أمة، بدليل الحرب الأهلية الفلسطينية- الفلسطينية في النصف الثاني من الثلاثينيات بين عصبيتي آل الحسيني وآل النشاشيبي.
وبدوره، يتجاهل الصوت النقدي الثالث السؤال البديهي عن جدوى تكرار ما سبق أن حصل، وعن كيفية ذلك، وخصوصاً أن الاستعمار نفسه ما عاد استعماراً، ولا عاد راغباً في أن يكون. والأحرى هنا التساؤل حول الأسباب العميقة التي جعلت تأثير الحقبة الاستعمارية القصيرة أشبه بالقشرة التي يسهل نزعها، وهو ما حصل في أغلب بلدان العالم العربي.
وهذا، على العموم، ما يلح علينا كي نفكر فيه: في ما ينبغي أن ننقد، وكيف ننقد، وكيف نعثر تالياً على تركيب مقنع بين الحقب والمعاني التي نتعرض لها بالنقد. والشيء الوحيد المؤكد حاجتنا إلى وضع سائر المسلَّمات تحت مجهر هذا النقد.
المصدر: الاتحاد
http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.php?id=80728