كاتب و أكاديمي متخصص في الإعلام الجديد
في أغسطس 2011 حصلت اضطرابات شهيرة في لندن تحتج على الأوضاع الاقتصادية، أدارتها أقلية من الشباب واستعانت فيها بمسنجر بلاكبيري وتويتر لإدارة هذه الاضطرابات التي ألحقت الكثير من الأضرار ومثلت صدمة للرأي العام الإنجليزي.
وقتها خرج ديفيد كاميرون وطالب بمنع وسائل الاتصال الاجتماعي حتى لا تتكرر هذه المشكلة.
هذه الحيرة والاضطراب والغضب التي يصاب بها صانع القرار السياسي عندما يفاجأ بأن الأمور تخرج عن السيطرة ويتحول الجمهور إلى متلق سهل التأثير عليه بسبب الشبكات الاجتماعية هي ما حصل لإردوغان، رئيس وزراء تركيا، الذي خرج ليعلن بنشوة المنتصر قرار منع تويتر في تركيا.
ردود الفعل أثبتت أن القرار حماقة سياسية، وقد أثار غضب الملايين من الناس، لأن مثل هذا القرار تعد واضح لا مجال للنقاش فيه على حرية التعبير، وكل المبررات التي ساقتها المحكمة العليا في تركيا وساقها إردوغان لا تبرر مثل هذا القرار الذي لعل أقل ما فيه هو حرمان ملايين الناس من وسيلة إعلام أساسية في حياتهم.
وبعيدا عن الجدل الذي يدور حول إردوغان لأسباب سياسية وأيديولجية، أعترف بأنني من الناس الذين يهتمون كثيرا بنجاح تجربة تركيا، لأنها باختصار دولة إسلامية استطاعت أن تحقق نجاحات اقتصادية وتنموية لا يمكنك إلا أن تعجب بها، وأن تحيي الشعب التركي على هذا العمل الدؤوب والإصرار المدني المميز لتحقيق ذلك الإنجاز. هذا يجعلني أغضب أكثر من خطوة إردوغان غير المدروسة، لأنه ليس فقط يمس مبدأ عالميا من مبادئ حقوق الإنسان، بل لأنه أيضا يشوه بها التجربة التركية الرائدة.
وإذا كان توقيت الحدث مهما لإردوغان لأنه يريد أن يثبت من خلال هذا القرار أن المحكمة تقف معه وتعترف بأن التسجيلات التي تثار حوله هي تسجيلات مزورة، وهذا في نظره سيساعده في الانتخابات القادمة، فإن التوقيت أيضا مهم لتويتر، لأنه الطلب الأول من نوعه (أي طلب إغلاق الحسابات التركية من قبل المحكمة) بعد فضيحة جون سنودن العام الماضي.
لما سرب جون سنودن وثائقه العام الماضي، خرجت تويتر منتصرة، لأن هذه الوثائق برأت تويتر من شبهة التعاون بأي شكل من الأشكال في تقديم المعلومات للحكومة الأميركية. كانت هذه مكافأة لتويتر بعد سنوات من الرفض والصد والتحدي في وجه مسؤولي الاستخبارات الأميركية الذين كانوا يمارسون كافة أنواع الضغط على تويتر بلا فائدة. هذا كله أعطى لتويتر سمعة حسنة، وهذه السمعة ستكون مفيدة لها في المستقبل تجاريا، وخاصة لما رأى العالم كيف أدت السمعة السيئة لـ”فيسبوك” للتأثير السلبي الحاد على صفقة الـ”واتساب”.
لكن “تويتر” كانت تبحث عن حل لمشكلتها مع الحكومات، وخرجت بحل العام الماضي من خلال إعلانها أنها مستعدة للتعاون بإغلاق بعض الحسابات أو تقديم معلومات في حال كان هناك تخاطب معها من قبل القضاء في دولة ما بهذا الشأن. بهذا الشكل، استطاعت “تويتر” تجنب التعاون الاستخباراتي والتجاوب مع سفراء الدول (السلطة التنفيذية)، وحصرت نفسها في التعامل مع السلطة القضائية، وبالفعل نفذت “تويتر” عدة أوامر من هذا النوع خلال الفترة الأخيرة في عدة دول حول العالم.
لكن “تويتر”، في دهاليزها، لا تتجاوب كثيرا مع الأوامر التي تأتيها من دول لا يوجد فيها فصل كامل بين السلطتين التنفيذية والقضائية، حتى لا تصبح تحت تأثير السياسيين ورؤساء الحكومات وقراراتهم، وهذا جعل “تويتر” ترفض تنفيذ أي قرار قضائي يخرج من كثير من دول العالم بما فيها تركيا.
بالنسبة للأتراك، فهم يرون أن لديهم محاكم منفصلة تماما عن الحكومة، بدليل أن محاكم تركيا هي أكثر الجهات التي وضعت ضغطا على حزب إردوغان وحكومته، ولكن “تويتر” قد لا تصدق ذلك، وخاصة أن رئيس الحكومة إردوغان قد حول قرار المحكمة إلى خطبة نصر سياسي، كما أن “تويتر” تحاول أيضا بشكل عام أن تكون بطيئة في تنفيذ قرارات القضاء حتى لا تصبح أداة للعقاب السياسي السريع (طبعا ليس صحيحا أن تويتر أزالت إشارة التصديق الزرقاء أمام اسم إردوغان لأن حسابه في الأصل لم يكن مصدقا).
أعتقد أن “تويتر” ستتجاوب قريبا مع قرارات المحاكم في تركيا بشكل أو بآخر ضمن صفقة معينة، وأعتقد أن حكومة إردوغان قد أدركت حماقة تأييدها لقرار المحكمة وتنفيذها السريع له بدون أي استئناف وستسعى لعلاج المشكلة، ولكن ما حصل يؤكد أن المعارك بين السلطات السياسية حول العالم وبين “تويتر” ستستمر وستتصاعد، ولن تستسلم لها “تويتر” بسهولة.
هناك عامل ضغط تخاف منه “تويتر”، ويمثل نقطة ضعف لها، وهي أنها بعد أن طرحت في السوق المالية، فإن منعها في أي من الدول يعني حرمانها من دخل إعلاني معين، وهذا سيثير غضب المستثمرين الذين قد لا يوافقون “تويتر” على أيديولوجيتها، وهم مجتمعون قد يغيرون إدارة “تويتر” إلى إدارة أخرى “أكثر تفهما” لقرارات الدول، ولكن بالمقابل فإن ردود الفعل السلبية بين عموم الجماهير ضد “فيسبوك وجوجل” لتعاونهما مع الحكومات والاستخبارات الأميركية تعطي نقطة لصالح إدارة “تويتر” التي تحاول الحفاظ على مصداقيتها الجماهيرية.
“تويتر” تتحول تدريجيا إلى “دولة” بحد ذاتها، والدليل أن محكمة تركيا اشترطت على “تويتر” فتح مكتب لها هناك (ما يشبه السفارة) حتى يمكن طبعا رفع الدعاوى القانونية ضدها، وهي تمثل كيانا افتراضيا ينتصر أحيانا على الكيانات الحقيقية والسياسية على الأرض..!
المصدر: الوطن أون لاين