كاتب وروائي سعودي
سعت إيران ولا تزال من خلال مخططاتها التوسعية في محاولات مدروسة لخلق توازنات علی مقاس طموحها وأهدافها الإستراتيجية بمنطقة الشرق الأوسط، اتخذت من أجل تحقيق ذلك لعبة التكتيكات؛ الرامية إلى إتاحة حزمة من الخيارات، التي تمكنها من ذلك مرحلياً وفق المتاح والقريب والراهن، فما لم تحققه من خلال الميليشيات المصطنعة في بعض مناطق الشرق الأوسط، تستطيع أن تفاوض عليه من خلال ديبلوماسيتها اللزجة.
تبدى ذلك بشكل واضح ومكشوف من خلال ممارساتها الأخيرة عقب صعقة «عاصفة الحزم» غير المتوقعة لها، فالخليج الذي واجه ولا يزال قلاقل مذهبية يثيرها بعض متطرفي الشيعة بين آونة وأخرى ليست إلا واحدة من تلك التكتيكات التي يستخدم فيها المذهب كـ«حصان طراودة»، بثت فيه الأفعى الإيرانية سمومها؛ لإشعال المنطقة بحفنة من الأزمات وإشغالها بها، وبما يمَكِّن إيران تحت مظلة دعائية فجة من حماية الشيعة من دخول المنطقة.
الحقيقة التي بدأت تتجلى واضحة للعيان بعدما لفتها حزمة من الشكوك، أن إيران المتسيسة -ظاهرياً- بعباءة وعمامة دينية، أصبحت في سياساتها الداخلية والخارجية لا تنزع في ممارساتها إلى أدنى القيم الدينية، وإن كانت تضرب على شعبها طوقاً دينياً خانقاً، وتسخر كل الأنظمة والقوانين المشرعنة وفق أطماعها ورغباتها لقمعه وتجويعه، وسوقها في اتجاه واحد لخدمة النظام وأجهزته وحمايته من التحلل أو حتى الاختراق، ولا تأخذ هذا النظام برفقاء الدرب إلاًّ ولا ذمة، ولا يتورع مجلس المرشدين -هيئة رجال الدين والمحلفين العموميين- من التخلص من المرشحين غير المرغوب فيهم، بواسطة نزع الأهلية منهم بكل الطرق غير الأخلاقية، ولم يستثنِ من ذلك السيد أحمدي نجاد، الذي أغراه استئناسه بالسلطة، وأراد بمعية رفيقه وقريبه مشائي تحوير المسار السياسي لمصلحته ولو بتزوير الانتخابات؛ لتكشف أحداث 2009 عمق الانهيار السياسي الذي تبوء به السياسة الإيرانية الداخلية.
فالثورة المليونية الخضراء كانت تتجه إلى تخليص إيران من نظام الملالي، ومع ذلك استطاع حرس الثورة بقوة الحديد والنار من كبح جماح المطالبة بالتغيير وإيداع جموع من الشباب الإصلاحيين المعتقلات، لذلك يُسند إلى مجلس المرشدين مهمة التخلص من دعاة الإصلاح الكبار من خلال نزع الأهلية منهم، والتحقيق معهم، وإعداد قضايا قانونية ضدهم وضد حلفائهم الآخرين، واتهامهم بالتزوير وأنهم «أصدقاء للتحريض».
وأمام غلواء هذا الاحتراب والفساد السياسي الملفوف بقماط ديني نتن، يستخدم نجاد الأسلوب الدنيء نفسه بالتلميح بما لديه من قاذورات ربما تصيب حتى مكانة الزعيم الروحي الأعلى آية الله علي خامنئي، الذي يتردد أن أحد أبنائه راكم ثروة ونفوذاً استثنائيين، ومع ذلك لا يتورع حراس الثورة ومكتسباتها من إلصاق التهم تلو الأخرى على المعارضين، ولا تكف عن ملاحقتهم قضائياً أو إقصائهم متى استشعروا منهم مجافاة للنظام، أو خروجاً ولو بأقل القليل عن إرادته، كما فعلوا مع الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني، الذي يعتبر أحد أركان الجمهورية الإسلامية، في شكل تدريجي من الهيئات الحاكمة، إذ أُخذ عليه تأييده للحركة الاحتجاجية، فكان ضاغطاً عليه، كلفه التخلي عن رئاسة مجلس الخبراء، الهيئة الدينية العليا المكلفة بتعيين المرشد الأعلى والإشراف على عمله، وكذلك فعلوا مع ابنه مهدي هاشمي، الذي أبدى دعماً قوياً للمرشح الإصلاحي مير حسين موسوي عام 2009؛ رافضاً انتخاب الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد لولاية ثانية مندداً بتزوير الانتخابات، وهو ما اضطره إلى الهرب خارج البلاد، هرباً من الاعتقال الذي كان يتهدده، وكما فعلوا مع فايزة هاشمي رافسنجاني التي حكم عليها بالسجن ستة أشهر بتهمة الدعاية ضد النظام، ومثل هذه الممارسات القمعية لرجال الصف الأول بالدولة، وبهذا تصنع لها هوية لا تمت إلى السماء ولا إلى الأرض بصلة، فهي تمارس أدواتها القمعية بواسطة الحرس الثوري، بصيغة أخرى في دول الخليج باستخدام «مستغفلين» لإحداث الفرقة بين أطياف المجتمع الواحد وإيجاد -كما قلنا- الثغرة التي تتسلل منها رياح الفُرس وأطماعهم الفاسدة، كما يمكن لها استثمار هذه القضايا المتفجرة خارجياً من تجميد كل القضايا الإصلاحية المعلقة في الداخل، وتحوير القضية برمتها إلى عملية استعداء مذهبي ممنهج، كل هذا كان يمكن أن يحدث لولا انطلاقة عاصفة الحزم التي خلطت الأوراق وأعادت ترتيبها من جديد، وفق رؤاها وتصوراتها التي تخدم مصالحها المتقاطعة مع مصالح اليمن بممثليها الحقيقيين، إذ أغلقت أمامها الطريق لمعاودة التغلغل في كيانه المركب من ست دول يكمل بعضها بعضاً، وقد تحسب الحسنة الوحيدة لإيران على مجلس التعاون الخليجي، من باب «مصائب قوم عند قوم فوائد» هي تلك الهزة العنيفة التي أحدثها التحرك الإيراني في العراق وسورية ولبنان واليمن، وهو ما دفع بدول الخليج إلى استعادة التفافها حول بعض وترميم بعض العطب الذي لحق بجسدها جراء اندفاع بعض دوله وراء الاتجاهات السياسية التي أحدثتها الفجوة الانتخابية المصرية التي أعقبت ثورة كانون الثاني (يناير) 2010، ليكتشف الجميع أنهم كانوا يتحركون في غير مسارهم الحقيقي، المتمثل في الخطر الإيراني الذي يتهددهم، على مقربة من ديارهم، إذ كانوا سينحرون على مضيق باب المندب بأيدي فارسية مسنونة بالكراهية والحقد. اليوم، وبعدما قطعت «عاصفة الحزم» مرحلة مهمة في تنفيذ أهدافها، وبعدما وقف العالم برمته معها، لن تجد إيران بسياستها البراجماتية سوى التخبط في مواقفها، فتارة تنحي باللائمة على بعض الدول المشاركة في عاصفة الحزم، وتارة تدعو السعودية بلغة سمجة إلى التوقف عن ضرب الحوثيين، والجلوس على طاولة المفاوضات، بينما هي لم تقدم تنازلات تذكر في ما يخص الجانب الحوثي، لم تتدخل لوقف إطلاق النار من جهتهم، وهم الذين تربوا على أيديهم واندفعوا إلى تخريب اليمن تحت رايتهم، لم يسعهم التخلي عن ممارسة دورهم الوجودي داخل اليمن الذي ظنوه جهلاً منهم أنه مضغة سهلة الابتلاع، كما قدروا على الجنوب اللبناني الذي غرسوا فيه حزب الله؛ مستثمرين في ذلك الحرب الأهلية اللبنانية التي مكنته من إيجاد موقع له، وصار يضرب به الاستقرار اللبناني ويهدد الطوائف برمتها.
اليمن انفجر لغماً موقوتاً في وجه إيران، وهو ما حدا برئيس البرلمان الإيراني علي لاريجاني، إلى أن يطلب من المملكة تبنِّي خطتها لحل الأزمة اليمنية، عبر الحوار السياسي بين الفرقاء السياسيين في اليمن . ولا ينسى أن يستخدم اللغة الإيرانية المكررة ساعة العجز قائلاً: «ننصح السعودية بأن تخرج من مستنقع اليمن؛ لأن الهجوم على اليمن يصب في مصلحة إسرائيل، وهكذا هي إيران منذ أن قدم الخميني على متن طائرة فرنسية من باريس، يلوحون ساعة يفقدون سيطرتهم على الأشياء وساعة يريدون تحقيق مكاسب سياسية ديماغوجية بإسرائيل، ويتهددونها في كل خطاباتهم السياسية بالتدمير والحرق، وبينما هم لا يفعلون سوى العكس، إذ أثبتت الوقائع المشمولة بالحقائق أن ثمة علاقات إسرائيلية-إيرانية حميمة لم تعد خافية على كل مطلع وباحث، منها اعترافات ووثائق مسجلة لا يمكن التشكيك بها. خلاصة القول: إيران مهدمة من الداخل وتبحث عن سبيل لبناء واجهتها الخارجية؛ لتتمكن من قمع كل القوى المعارضة لها، كما تريد التمظهر بقوتها من خلال برنامجها النووي وسط شعب يطحنه الجوع، بينما جزء منه تطحنه آلة حراس الثورة القمعية.
المصدر: الحياة
http://alhayat.com/Opinion/Mohammed-Al-Mzini