كاتب سعودي
الليبرالية نهج في إدارة الحياة، مبني بشكل عام على ثلاثة مبادئ هي الحرية والعدالة، وسيادة القانون، وتمارس الليبرالية في إطار من الالتزام بحقوق الإنسان وفي ظل مراعاة الصالح العام. وانبثقت الليبرالية من النظرة الإيجابية للإنسان والثقة بمقوماته الأخلاقية وقدراته العقلية والإبداعية والمهارية، والتي بدونها لا يمكن أن تتطور الحياة ويتحسن العيش فيها، والتي لا يمكن أن يتم تفعيلها لأقصى مداها والاستفادة القصوى منها بدون فضاء حياتي تعمه الحرية والعدالة وسيادة القانون.
إذاً فالليبرالية كنهج في إدارة الحياة، تُعنى بمجالاتها الرئيسية الثلاث الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فمن ناحية الليبرالية الاجتماعية، وهي ما يهمنا الآن في هذا المقال، هي التي تهتم بتعزيز مكانة الفرد في المجتمع، حيث هو نواة المجتمع الأولى، والذي إذا صلح صلح المجتمع، وإذا فسد فسد المجتمع. ومن مقومات صلاح الفرد تهيئة مناخ له، تعمه الحرية والعدالة وسيادة القانون.
فحرية التفكير والتعبير مهمة جداً لأي فرد؛ حيث هي التعبير الحر عن شخصيته ومقوماته الروحية والمعنوية وحمايته من النفاق والعيش بأكثر من وجه، والتي تعتبر من مقومات مرض اضطراب الشخصية. وكذلك إشاعة مناخ من التسامح مع المختلف والمغاير وقبول الآخر. مع فرض العدالة بالتساوي بين أفراد المجتمع من ناحية فتح مجال الفرص أمام جميع أفراد المجتمع بدون تمييز أو تفضيل لبعض على بعض إلا بالجدارة؛ وهذه هي الضمانة الوحيدة لتفعيل جميع طاقات المجتمع المبدعة والمتميزة الروحية منها والمادية والوجدانية، والتي يعتمد عليها المجتمع في رقيه وتطوره، وإلا هاجرت لمجتمع آخر يضمن لها الفرص التي تستحقها ويستفيد منها وتصبح داعمة لرقيه وتطوره وتتحول لجزء من نسيجه الاجتماعي، لا جزءا من نسيج مجتمعها الأصلي.
ولا يمكن بأن تترجم الحرية والعدالة، إلا بسيادة القانون، فإذا كان جميع أفراد المجتمع وبتنوع فئاته وأطيافه وأغنيائه وفقرائه سواسية أمام القانون (أو الشريعة)، فهذه دلالة لا يمكن أن تخطئها العين على صلاحه من ناحية الحرية والتسامح والعدالة. وعلى هذه الاشتراطات الإدارية الاجتماعية تنبني أسس المواطنة الحقة، والتي بدورها تكون المعبر والمحرك الرئيسي لأنظمة الدولة وقوانينها الاقتصادية والسياسية.
مبدأ الحرية في المفهوم الليبرالي، يتحرك ضمن إطار الصالح العام، ولا يتضارب معه أو يستفزه؛ ولذلك فما يقبل كحرية شخصية في مجتمع ليبرالي قد لا يدخل ضمن الحريات الشخصية في مجتمع ليبرالي آخر، خاصة من الناحية السلوكية. ولذلك تعدد تطبيق الليبرالية من مجتمع لآخر، أي أصبح هنالك عدة ليبراليات في العالم، فهي تشترك فيما بينها بأسس القيم الليبرالية وتختلف عن بعضها من ناحية التطبيق. كما أن تطبيق القيم الليبرالية، قد يختلف في نفس المجتمع الليبرالي من مرحلة زمنية لأخرى، على حسب تحرك وتغير الصالح العام لديها؛ فالعرف الذي يكون مقبولا لدى مجتمع في مرحلة زمنية سابقة، قد لا يكون مقبولا في فترة زمنية لاحقة، والعكس صحيح. وليس صحيحا بأن الليبرالية ولا حتى العلمانية، تطالب أو تسعى لفصل الدين عن الحياة؛ وذلك كون الدين علاقة وجدانية خاصة بين الإنسان وربه، ولا يستطيع كائن من كان أن يفصله عنها، ومن يستطيع فصل الحب عن الحياة، يستطع فصل الدين عن الحياة؛ وكلاها ممتنع عن التحقيق. ومن الناحية الأخرى فأي إنسان يتدخل في حياة الفرد خاصة في شأنه الخاص والديني منها بالذات، ينتهك أعلى قيمة من قيم الليبرالية وهي حرية المعتقد. أي من يسعى لفصل الدين عن الحياة، هو ليس بليبرالي إن لم نقل عدو لليبرالية ومنتهك لقيمها. ولكن في الحقيقة الليبرالية تسعى جاهدة لتنظيم العلاقة في المجتمع بين الديني والسياسي، أي بين المساحة العامة وبين المساحة السياسية؛ وليس في المساحة الخاصة ولا في مساحة الشرائع السماوية.
إذاً فالليبرالية بمفهومنا المحلي، هي النظرة الخيرية للإنسان، أي التي ترى بأن الخير أصل في الإنسان وأن الشر شذوذ فيه، أي أن الإنسان خير ما لم يثبت عكس ذلك. وعكسها هي النظرة الشرية للإنسان، أي التي ترى أن الشر أصل في الإنسان وأن الخير شذوذ فيه، أي أن الإنسان شري ما لم يثبت عكس ذلك. ولذلك فالمجتمعات الليبرالية تتبنى النظرة الخيرية للإنسان، عليه تطبق المبادئ الليبرالية، من منح الفرد الحرية والعدل وزرع روح التسامح فيه. إذاً فالمجتمع الذي يتبنى النظرة الخيرية للإنسان كمبدأ إدارة حياة، يشيع فيه مناخ الحرية والتسامح، وعليه تقل فيه القيود والمحرمات (ولا أقول تنعدم)، بحيث يوفر لأفراده مجالا أوسع ليتحركوا من خلاله ويسعوا في المساهمة الفاعلة والحقيقية لتطويره وجلب الخيرات لأنفسهم والتي تنعكس إيجاباً عليه. وتعم فيه ظاهرة فتح أبواب المنافع.
أما المجتمع الذي يتبنى النظرة الشرية للإنسان كمبدأ إدارة حياة، فيشيع فيه مناخ من الكبت، والاضطهاد وتكثر لديه القيود والمحرمات. وعليه يضيق الخناق وتقل الفرص أمام أفراده، وتقتل روح الأمل فيه وينتشر البؤس والظلم والكذب والتحايل وينتحر فيه الإبداع والمبادرات الخلاقة. وتعم فيه ظاهرة سد أبواب الذرائع، ويعيش عالة على غيره من المجتمعات الحرة والمتقدمة.
النظرة الخيرية للإنسان هي جوهر الحياة والتي أسس الله سبحانه وتعالى عليها نهج عمارة الأرض. عندما أخبر الله سبحانه وتعالى ملائكته بأنه خالق في الأرض خليفة له، وهو الإنسان، تساءل الملائكة: “أتخلق فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء”؟ فرد عليهم الله بأنه يعلم ما لا يعلمون؛ وسلموا لعلمه طائعين غير مجبرين. فخلق الله آدم ونفخ فيه من روحه الطيبة الطاهرة الزكية؛ وسخر الله لآدم وبنيه ما في الأرض والكون أجمع وأمرهم بإعمار الأرض وإقامة العدل فيها.
إذاً فخيرية الإنسان التي لم يرها الملائكة في البداية، هي روح الله التي نفخها بجسد آدم عليه السلام، وأكسبته الخيرية؛ وعليه شكلت طابعه الأصلي. أي أصبحت الخيرية هي الأصل في الإنسان والشر هو الطارئ عليه؛ ولكن إبليس لم ير في آدم إلا الطين، ولم يرى روح الله التي نفخت فيه؛ ولذلك أبى أن يسجد له واستكبر، وصار من الخاسرين الملعونين إلى يوم الدين.
إذاً فمن يرى أن الأصل في الإنسان هو الشر؛ ويعامله بديكتاتورية وكبت وقيود وريبة وتسلط هو في الأول والأخير يخالف سنة الله في خلقه للكون.
أما من يرى بخيرية الإنسان وعليه يشيع روح الحرية والتسامح والعدل في المجتمع الإنساني، فسينعم بإعمار الأرض واتباع سنة الله في خلقه للكون والإنسان.
المصدر: الوطن أون لاين