كاتب وصحفي سعودي
انتقلت أثناء دراستي في مانشستر في بريطانيا إلى لندن لمدة أسبوع؛ لإجراء مقابلات تتعلق ببحثي الدراسي. قبل أن أغادر عبأت استمارة غياب لابنتي، التي تدرس في إحدى مدارس مانشستر مرفقة مع خطاب من مشرفي الدراسي، موضح فيه سبب سفري لمدة خمسة أيام ومدى أهميته لبحثي؛ لتسمح لي إدارة المدرسة أن اصطحب ابنتي معي.
لم يكن الأمر سهلا أن أقنع ابنتي بالغياب عن المدرسة إثر العلاقة العاطفية الحميمة، التي تربطها بها، شأنها شأن رفيقاتها الإنجليزيات. لكن حرصتُ على أن تكون بجواري خلال رحلتي إلى لندن.
توقعت أن تواجهني صعوبات علمية خلال وجودي في لندن، بيد أن الصعوبات كانت من نوع آخر. أمطرتني مدرسة ابنتي بوابل من الاتصالات، وكان أول اتصال من معلمتها تستفسر فيه عن غياب ابنتي. أخبرتها عن السبب وأنني عبأت الاستمارة المطلوبة وسلمتها إلى المشرفة الإدارية وأغلقت الخط واعتقدت أن الموضوع انتهى. بيد أنه لم ينته بل ربما للتو بدأ. اتصلت عليّ بعدها بدقائق المشرفة الإدارية وهي تقول بحزم: “نعم، عبأت الاستمارة لكن لم نوافق على غياب ابنتك”. أشارت إلى أن إدارة المدرسة بعثت بالرفض في البريد. حاولت أن أبرر لها أنني في لندن حاليا ولم أطلع على إجابة إدارة المدرسة وأنني ملزم بالسفر لإنهاء أحد متطلبات بحثي. علقت المشرفة على حديثي قائلا: “أنت ملزم بالسفر وإجراء مقابلات لبحثك. لكن لست ملزما بأخذها معك. كان بإمكانك أن تدع أمها تبقى هنا وتجلبها وتأخذها من المدرسة نيابة عنك”. ضربت لي أمثلة بعدة أمهات مطلقات يصطحبن أبناءهن من وإلى المدرسة يوميا بلا مشاكل. أعطتني محاضرة عن البدائل المناسبة. اختتمت المشرفة حديثها الطويل بتحذيري بأن أي يوم إضافي ستغيبه ابنتي سيعرضني لغرامة وعقوبة قد تصل إلى السجن لأنني أحرم ابنتي من حقها في التعليم وأنها عندما تكبر لن تنسى ما فعلته بحقها. أخبرتني أنني سأندم كثيرًا لأني جعلت ابنتي تتأخر عن رفيقاتها في الفصل. سيسبقنها وستشعر بالامتعاض والنقص.
حاولت أن أجري ما تيسر من لقاءات خلال يومين في لندن. ومن ثم قطعت رحلتي وعدت إلى مانشستر جراء تهديدات المشرفة في مدرسة ابنتي وحديثها الذي نغص رحلتي وأفقدني تركيزي. تخيلتني مخفورًا ومقتادًا من شقتي إلى الشرطة ومن ثم مرحلا إلى وطني على حين غرة. رسمت صورة لابنتي كبيرة وهي تكفكف دموعها بسبب تأخرها الدراسي الذي تسببت فيه.
اصطحبت ابنتي في اليوم الثالث إلى المدرسة؛ آملا أن أضع حدا للغضب والتحذيرات والإحباط الذي يعتريني. لكن الضغوط ازدادت. عقدت معي مديرة المدرسة لقاء بحضور استشارية من مجلس المدينة Council للحديث عن غياب ابنتي وملابساته.
حضرت هذا اللقاء الذي افتتحته المديرة بقراءة لوائح المدرسة التي تمنع غياب أي طالب دون عذر مقبول كحادث أو موعد طبي أو موعد رسمي. ثم اتبعته بقراءة لائحة العقوبات والغرامات المقرة تجاه ذوي الطلاب.
بعد ختام الاجتماع أشعرتني المديرة أن غياب ابنتي ليومين دون عذر سيؤثر في تصنيف المدرسة الذي يعتمد على انتظام الطلاب ومبادرات المدرسة ونتائج طلبتها.
أشعرتني المديرة بحضور الاستشارية، التي كانت ترصد باهتمام ما يدور في الاجتماع في دفتر أمامها، أن اللوائح ستتطلب أن تزورني خلال أيام إخصائية اجتماعية في المنزل للوقوف على البيئة التي تعيش فيها ابنتي ومدى ملاءمتها مع المعايير التي يعتمدها مجلس المدينة. مكثت الإخصائية في منزلي نحو ساعة كانت زاخرة بالأسئلة. ثم طلبت مني الإخصائية أن انصرف لمدة عشر دقائق لتتحدث بانفراد مع زوجتي. وكشفت لي زوجتي لاحقا أنها سألتها إذا كانت أو أي فرد من عائلتي تعرض لعنف بأي شكل عن طريقي.عشت لحظات عصيبة إثر غياب ابنتي ليومين فقط.
قد نختلف في طريقة وأسلوب التعليم في بريطانيا وغيرها من الدول الأجنبية لكن نتفق على أنهم استطاعوا أن يصنعوا للمدرسة قيمة عظيمة.لا تهاون مع تأخير أو غياب مهما كان. بينما في دولنا يغيب الطلاب قبل الاختبارات بنحو أسبوع دون أن يثير غيابهم نقعا أو صليلا.
إذا أردت أن تستشرف مستقبل أي أمة تعرف على آلية الاهتمام بأطفالها.
من يعتني بالبذور جيدًا، ستطيب له الثمار كثيرًا.
المصدر: الاقتصادية