كاتب سعودي ويشغل حالياً منصب مدير قناة "العرب" الإخبارية
أوكرانيا على أبواب حرب أهلية، الأوضاع هناك أسوأ من احتجاجات وحرائق، والانقسام أعمق من خلاف سياسي بين حكومة منتخبة ومعارضة تريد إسقاطها، والقضية أكبر من اتجاه يريدها باقية ضمن المحور الروسي، وآخر يتطلع غرباً نحو أوروبا. إنه انقسام وصل حتى العظم قد يقسم هذه الديموقراطية الناشئة عرقياً ودينياً. الصور من هناك تذكرنا بما رأينا في ميادين «الربيع العربي» مضاعفاً مرات عدة، ولكن من دون تلك الأرقام المهولة للقتلى التي تعودنا عليها في عالمنا. إنهم مذهولون أمام العدد المتزايد للقتلى الذي قد يصل إلى 80 قتيلاً مع نشر هذه المقالة، غير أن هذا الرقم الذي صدمهم وصدم الأوروبيين لا يزال بعيداً من أرقامنا القياسية في كل يوم، فلماذا؟
إنه التزامهم بمعايير «حقوق الإنسان العالمية» التي لا تجيز استباحة الدماء في صراعات الأهل والوطن الواحد، أما نحن فلا نزال نعتقد بجواز استباحتها من باب الضرورة لسلامة المجتمع والأمن العام، يجب أن نعترف بأن بعضاً من «الحجاج بن يوسف الثقفي» لا يزال يعيش في السياسي العربي، بل حتى المثقف والداعية والكاتب والمعلم العربي، مستعد أن يقبل «التضحية بشوية لأجل الباقي يعيش» كما قال الرئيس المصري المعزول محمد مرسي خلال إطلاق مبادرة لحماية حقوق المرأة المصرية!
استشهدتُ بمرسي من دون غيره لسببين، أولهما أننا دخلنا في زمن ننتقي مَن ننتقد ونسكت عن آخرين، ومرسي يدخل في دائرة «المستباحين»، والثاني أنه رئيس منتخب جاء ليحيي قيم الحياة وحقوق الإنسان وحرمة الدم، فكانت المفارقة أن قال تلك الجملة الشهيرة التي لا يزال يحاسب عليها إعلامياً، بينما يمكن أن تسمعها من غيره هذه الأيام، ولكن لن يُنتقد قائلها، إن منطقها يجري في تفكيرنا السياسي، وبعضنا يقولها بصمته على مئات وآلاف قتلوا هنا وهناك، بل إنه مستعد لتبرير ذلك علانية، لأنه يعتقد أن قتلهم كان ضرورة للمصلحة العامة، فيقول شيئاً من نوع «لازم نضحي بشوية عشان الباقي يعيش»!
لو انتصر بشار الأسد، فستكون عنده الوقاحة الكافية أن يقيم نصباً تذكارياً لشهداء سورية، ويَبكي مَن قُتل في صفه ومَن قُتل في صف الثوار أيضاً، فيقف وبجواره السيدة حرمه وأطفالهما، يمسح دمعة سالت على خده والتقطتها الكاميرا ويقول: «جميعهم أبناء سورية وإن غرر بهم»، ثم يضع إكليل زهور وسط تصفيق حار وهتاف من قال يوماً: «الأسد أو نحرق البلد»، وكأن ما حصل انتخابات، فيوجّه الرئيس الفائز شكره لمن صوّت له ومن لم يصوّت. نعم، هكذا جرى تداول السلطة في عالمنا البائس منذ رفض معاوية مبايعة علي بن أبي طالب بالخلافة، وخرج عليه شاهراً سيفه.
قبل عامين، أشيع في وسائط الإعلام الاجتماعي أن ثمة دعوة للتظاهر في السعودية، وحُدد لها تاريخ، ولم يُعرف صاحب الدعوة وما إذا كانت حقيقية أم مجرد فشة خلق صبيانية أم مؤامرة أجنبية، لكن أحد الدعاة المشهورين أراد أن يكون وطنياً، فخطب يهدّد ويتوعّد ويطالب بسحق جماجم كل من يخرج للتظاهر. لم تحصل التظاهرة ولم تسحق أي جمجمة ولله الحمد، ولكن لو حصلت وسحقت بعض الجماجم فأي مجتمع سيعيش فيه فضيلة الداعية مع إخوةِ وأبناءِ عمومةِ مَن سحق جماجمهم؟
عشرات المعلّقين العرب والكتّاب تمنطقوا بعبارة نسبوها إلى رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون: «لا تسألني عن حقوق الإنسان عندما يتعرّض الأمن القومي في بلادي للخطر»، وذلك في معرض تبريرهم لانتهاكات حقوق الإنسان في بلدانهم، التي يرونها ويعلمون بتفاصيلها في هذا الزمن الذي لا تخفى سرائره، ولم يهتم أيٌّ منهم بأن يعتذر عندما تأكد أن العبارة مكذوبة، بل ربما لديه الوقاحة الكافية أن يقول: «قد تكون مكذوبة ولكن معناها صحيح».
أوكرانيا، ومنذ ثلاثة أشهر، ليست منقسمة بين معارضة وحكومة، وإنما منقسمة عرقياً ودينياً، والخلاف بين الفريقين حول هوية الوطن ذاته، بين من يريده محافظاً لصيقاً بروسيا وتراث الاتحاد السوفياتي والكنيسة الأرثوذكسية، ومن هو أوروبي الهوى ليبرالي، يحلم بأن يكون جزءاً من الاتحاد هناك. غالت المعارضة وتجرأت حتى اقتحمت مقرات حكومية، ولن يردها غير الإطاحة بالرئيس. أثناء ذلك تجري مواجهات يومية بين الشرطة والمعارضة، تستخدم فيها الهراوات، والقنابل المسيلة للدموع، والمولوتوف، والطبول، والخطب الحماسية، وإعلام منقسم، مع اتهامات بأن للمعارضة أجندات خارجية. عزز ذلك تأييد أميركي صريح للمعارضة، بل إن السيناتور الأميركي جون ماكين المعروف جيداً في مصر، خطب في المعارضة ومن ساحتها. المعارضة تتهم السلطة باستخدام بلطجية، والسلطة تتهم المعارضة بالإرهاب، الصور من هناك تبدو وكأنها ساحات حرب، ولكن حتى الآن لم تسحق جماجم، وسقط 5 قتلى، وقيل إنهم 6. حتى الإثنين الماضي، وعندما سقط نحو 40 متظاهراً وشرطياً فقط في يوم واحد، بعدها ذهل الأوكرانيون ومعهم العالم.
كنت في ندوة بالعاصمة النمسوية فيينا حول الأزمة هناك. سألت المتحدثين، وكانوا بلغارياً وأميركياً وروسية: ماذا سيحدث لو أمر الرئيس يانوكوفيتش مدعوماً بحليفه بوتين، الجيشَ والشرطة بفض الاعتصام؟ ماذا لو فعل مثل بشار في أيام الثورة السورية الأولى بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين السلميين فسقط 100 أو 200 في يوم واحد مثلما يحصل في بلادنا؟ كانت إجابتهم أن هذا لا يمكن أن يحصل، العالم لن يقبل، أوروبا لن تقبل! ولكن ما بال العالم قَبِلَ بذلك عندما حصل عندنا؟ ربما لأننا نحن قبلنا به، لأننا نعتبر قتل 100 أو 200 في يوم واحد من شروط التدافع في الأرض. بيننا مُفتون ومثقفون وشعراء يقولون بذلك.
لذلك يجب أن تكون هناك حركة محايدة وسط صراعاتنا الكثيرة، تدعو لإحياء ثقافة حقوق الإنسان، وتواكب الحراك نحو الديموقراطية، فالديموقراطية تفرز دوماً مجتمعاً تعددياً، ما يعني تقسيم المجتمع إلى قسمين أو ثلاثة أو أكثر، وما لم يتعلم قسم احترام «حقوق الإنسان» عند الآخر، وحقه في أن يكون مختلفاً عنه، سيقتتلان ويتآمران أحدهما على الآخر مرة تلو الأخرى.
«أوروبا الشرقية تشهد الجولة الأخيرة في عملية إعادة البناء، ويجب أن تتم باحترام حقوق الإنسان، ولن يتم ذلك من دون رعاية أوروبية لذلك»، قالت ذلك باحثة نمسوية، فكتبت: «ونحن لا نزال في الجولة الأولى وقد سقط منا حتى الآن… كم عربيّاً قتل منذ كانون الثاني (يناير) 2011 حتى الآن؟».
المصدر: الحياة