كاتب سعودي
تحية وطنية وبامتنان لأستاذنا الفذ داود الشريان، الذي فجر وبكل شجاعة موضوع تكرار جر شبابنا وباحتراف للذبح كالخراف، في كل حفلة جزر تحاك هنا أو هناك. حيث أصبحت تحاك لكل شعب مؤامرة واحدة؛ أما شعبنا فتحاك له مؤامرات وسط كل مؤامرة تحاك لشعب قريب منا أو بعيد، مع كوننا أكثر من يؤمن ويردد الحكمة: “لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين”. إلا أن لدغنا المرة تلو الأخرى أصبح ظاهرة حصرية لنا وحدنا، دون غيرنا من شعوب الأرض.
أستاذنا العزيز داود، وبكل جرأة علق الجرس؛ وهنا ما بقي علينا نحن إلا الصمود أمام من يقرع في عنقه الجرس والإمساك به، لا الهروب من أمامه حتى لا يلتهمنا الواحد تلو الآخر، وهذه غاية أستاذنا داود الوطنية من تعليق الجرس. عندما أخذت تقرع الأجراس التي علقها داود بالأعناق، قذف قرع الأجراس المدوي في أذني أسئلة أكثر من قذفه إجابات، على السؤال المزعج والمحير: من المسؤول عن جر أبنائنا للذبح كالخراف في كل كارثة ترتعد منها القلوب وتخاف؟
سألت نفسي هل من الممكن بأن فلانا وفلانا وعلانا، ممن ذكرهم الزميل داود هم السبب؟ أي هل في حال تم القبض عليهم متلبسين بالجرم المشهود وتم الحجر على حرياتهم؛ ستكون حالنا أفضل؟ وهل سيعم السلام مجتمعنا ويلتزم شبابنا الدراسة في مدارسهم وجامعاتهم، ويحصلون منها على العلوم النافعة والآداب الشافعة؛ ويتخرجون ليقودوا مجتمعنا من حاله الآن إلى أفضل حال؟ الجواب: أشك في ذلك؛ إلا في حال كون فلان وفلان وعلان لديهم قدرات أسطورية خارقة، لم يمتلكها قبلهم أحد. أو بأن مجتمعنا ساذج جداً جداً؛ حيث بعدده الذي تجاوز العشرين مليون نسمة، يتصرف به أربعة أو عشرة أشخاص عزل، ليس فقط من الميليشيات؛ ولكن أيضاً من الثروات والمؤسسات.
لا أعتقد بأن فلانا وفلانا وعلانا يمتلكون أي قدرات خارقة، كما أني لا أعتقد بأن مجتمعنا ساذج جداً. إذن، فمن هو المتهم بزج شبابنا وثرواتنا كوقود للحروب في كل الاتجاهات والدروب؟! أنا أجزم يا عزيز داود بأن، ما في الفخ أكبر من عصفور، أو كما تقول أنت فيما معناه، ما في الفخ أكبر وأكثر من “عرعور”، ونفير شبابنا وثرواتنا كوقود للمهالك والمحارق الكونية، ليست وليدة الحرب الطاحنة الآن في سورية؛ فقد ذهبوا قبلها إلى أفغانستان وبعدها إلى الشيشان وبعدها إلى البوسنة والهرسك، وبعدها إلى العراق ولبنان، وها هي الآن في سورية الجريحة. فإذا كانت المسألة على هذه الحال وتسير على هذا المنوال؛ أصبح النفير ونفخ الكير في الحروب وللحروب ظاهرة اجتماعية لدينا، لا يمكن بأن تخطأها حتى عين الكفيف.
وبما أن نفير ثرواتنا الشبابية والمادية لكل مهلكة تندلع هنا أو هناك، هي ظاهرة اجتماعية؛ إذن هنالك جو اجتماعي وثقافي ونفسي ومادي عام يحتضنها ويغذيها وهي كامنة؛ ويخرجها ويؤججها متى ما قرعت طبول الحرب وتدفقت الدماء واشتد الضرب. والظاهرة العامة هي نتاج زخم حراك عام مستمر تشترك في تكوينه وتدعيمه عدة أطراف فاعلة ومؤثرة وممولة في المجتمع؛ وحتى الطرف المؤثر الساكت عنها أو حتى الذي لا يراها، يعد ـ بلا جدال ـ داعماً لها وشريكا في صنعها.
دعني أروي لك أستاذي قصتين حدثتا أمامي ومن أهل بيتي علها تضيء ملامح ظاهرة النفير لدينا، ثم لنتحرك أعمق في كشفها. كانت ابنتي عروبة جالسة ونحن نتابع التلفزيون، فأتت إليها والدتها وطلبت منها قصر صوت التلفزيون لكون الناس يصلون في المسجد الآن. وردت عليها عروبة بكل براءة، بأن الناس هؤلاء لا يصلون وإنما يدعون على الناس، وذلك أثناء القنوت لنصرة مقاتلي النظام في سورية والدعاء بالهلاك والسحل والدمار لأقطاب النظام. أي من خلال تكرار القنوت في المساجد جعلت، ليس الشباب فقط، ولكن حتى الفتيات في بيوتهن يتأثرن بجو النفير العام.
والقصة الثانية، حدثت عندما كنت أقود سيارتي وبجانبي ابنتي تفاني، وكنا نستمع لإذاعة MBC FM، وأتى موعد موجز للأخبار، والذي ينقل مباشرة من قناة العربية الفضائية. ومباشرة بعد انتهاء موسيقى مقدمة الأخبار، أصدرت تفاني بفمها صوت مدافع (دو دو دو)، ثم تلتها بترديد “الله أكبر الله أكبر” وفعلاً بدأ موجز الأخبار بصوت مدافع مدوية ثم تلتها صيحات الله أكبر، ومن ثم صوت المذيع أو المذيعة، لخبر هدم المساجد والمجازر في سورية. ابتسمت والتفت عليها وسألتها، هل سمعت الموجز هذا اليوم؟ فأجابتني بلا؛ ولكنها تسمعها يومياً وهي تردد بهذه الطريقة. أي من خلال تكرار قناة العربية وغيرها افتتاحيات أخبارها على هذه الشاكلة، برمجت اللا وعي عند الفتيات، ناهيك عن برمجتها للا وعي الشباب، بصوت النفير العام.
طبعاً لا فلان ولا فلان ولا علان ممن ذكرتهم ياعزيزي داود، له القدرة على الأمر ولا النهي لا على 94 ألف مسجد ومنبر؛ ولا على قناة العربية الفضائية لا من قريب ولا من بعيد. أي أنه في هذه الحال، لا نستطيع اتهام تيار أو طيف واحد في المجتمع بها، وإنما اشترك به التيار المحافظ والتيار الليبرالي على حد سواء؛ وكل من خلال منبره الخاص به.
تكلم زملائي وزميلاتي الكتاب والكاتبات بما فيه أكثر من الكفاية عن الفكر المحافظ المتشدد في إذكاء ظاهرة النفير للحرب في سورية وهذا صحيح؛ ولكن ما تجاهلوه أو غاب عنهم، دورنا الفاعل نحن أيضاً ككتاب وإعلاميين في إذكاء هذه الظاهرة. لدرجة أن منّا من صرح بأن إسرائيل أقل خطرا عليه من إيران؛ بحجة خطورة مؤامرات إيران على السنة والمنطقة بشكل عام!! وهذا التأجيج الطائفي أخطر المواد المسعرة للنفير العام؛ فعن طريقها استنفر الشباب، لا عن طريق الحرص على الديموقراطية ولا إعجابا بمبادئ المجتمع المدني في سورية ولا صيانة لحقول الإنسان هناك.
واسمح لي عزيزي داود، أن أذكر لك قصتين كذلك علهما توضحان مدى تورطنا كلنا في إذكاء روح ظاهرة النفير لسورية. أنت التقيت بشيخ في أحد حلقات برنامجك المميز الساعة الثامنة، باعتباره وسطيا. وهذا الشيخ ظهر فجأة على قناة العربية؛ يشرح ويحلل ما يحدث في سورية، معداً داعش متطرفة وصنيعة إيرانية وجبهة النصرة معتدلة، ولم يقل لنا الثانية صنيعة من؟ مع كون كلا التنظيمين ينتميان للقاعدة وتحت إمرة أيمن الظواهري، وتحدث بلغة طائفية ممجوجة. زميل لنا، كتب في جريدة ليبرالية جداً؛ يحثنا بأن نغض الطرف عن التحاق شبابنا بجبهة النصرة، كونها الجناح المعتدل في القاعدة؟ ولأول مرة أسمع بأن هنالك اعتدالاً أو تطرفاً في عملية جز الرؤوس وبقر البطون!
في الختام؛ قد يكون فلان وفلان وعلان، ممن يصطادون في الماء العكر؛ وقبل أن نلوم أيا منهم، يجب بأن نلوم أولاً وثانياً أنفسنا وبكل شجاعة؛ لأننا نحن ممن أسهم في تعكير صفو ماء مجتمعنا؛ وأهدينا لهم ولغيرهم فرصة الاصطياد بمائه العكر.
المصدر: الوطن أون لاين