مفكر عربي يقيم في باريس
هل العرب بحاجة إلى أنوار جديدة؟ هل هم بحاجة إلى جرعات فلسفية، لكي يشفوا من مرض عضال؟ السؤال بحد ذاته استفزازي، بل وأكثر من استفزازي، لأن كل علماء الأرض شرقا وغربا يقولون لك بأن سبب انحطاط معظم العرب والمسلمين ناتج عن ازدراء الفلسفة والفكر العقلاني. ربما كان ابن قتيبة أول عالم أصولي يهاجم الفلسفة اليونانية ويعيب على المعتزلة ومثقفي عصره عموما الانبهار بها والإغراق فيها. كان يعيب عليهم الإعجاب بأفلاطون وأرسطوطاليس وسواهما. وهو ما يعيبه علينا الإخوان الأصوليون اليوم. لماذا تنبهرون بديكارت وكانط وهيغل… إلخ؟ لم يتغير شيء ولم يتبدل منذ ألف سنة. أكاد أقول ما أشبه الليلة بالبارحة! بلى تبدل وتغير. رجعنا إلى الخلف أكثر. فالإمام الغزالي عندما تصدى للفلسفة كان يعرف ما هي بالضبط. كان متبحرا فيها قبل أن ينتقدها. أما شيوخ اليوم فلا يعرفون شيئا عن الفكر الحديث. وربما في حياتهم كلها لم يفتحوا كتابا لكانط أو ديكارت أو حتى مالبرانش. إنهم غاطسون كليا في مناخ العصور الوسطى. وبالتالي فأصوليو الأمس كانوا أكثر جدية من أصوليي اليوم بكثير. وهذا ما كان يردده محمد أركون في دروسه العامة مرارا وتكرارا. لحسن الحظ فإن فرنسا قررت الاعتراف بهذه الشخصية الفذة أخيرا. فسوف يدشنون باسمه مكتبة عامة في قلب العاصمة الفرنسية بتاريخ 23 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي. وهي أول مكتبة تحمل اسما عربيا: مكتبة محمد أركون. وذلك في شارع موفتار الشهير بالحي اللاتيني: حي السوربون والجامعات. ومعروف مدى الدور الكبير الذي تلعبه المكتبات المجانية العامة في فرنسا والعالم المتقدم كله. إنها غذاء ثقافي مباح ومتاح للجميع. ويا ليت أن الدول العربية تقلد أوروبا في هذه الظاهرة الإيجابية جدا لأنها تساهم في تثقيف الأجيال. أعتقد أن وزيرة الثقافة البحرينية الشيخة مي بنت محمد آل خليفة تمشي في هذا الاتجاه الحضاري وتحاول تنوير شعب البحرين والأجيال الجديدة بقدر ما تستطيع. لا ينبغي أن نستهين بدور المكتبات في نشر الأنوار المعرفية. هل نعلم بأن مكتبة قرطبة في عهد الخليفة الأموي العظيم عبد الرحمن الناصر وبنيه كانت تضم أكثر من أربعمائة ألف كتاب؟ وكان مغرما بحب الكتب. لاحظوا هذه الصفة الرائعة لرئيس الدولة! ويقول روجيه غارودي بأنها كانت أكبر مكتبة في جميع أنحاء أوروبا وربما العالم كله. كان ذلك أيام زمان عندما كانت لنا حضارات وأمجاد، عندما كنا قادة العالم علما وفلسفة ونورا ساطعا. كم يتمنى المرء لو أنه تتشكل في اللغة العربية مكتبة فلسفية كاملة. أقصد مكتبة تشرح لنا تاريخ الفلسفة من أوله إلى آخره بشكل واضح، مبسط، مفهوم من قبل الجميع تقريبا. فنحن أحوج ما نكون إلى ذلك بغية مواجهة الفكر الجاهل والظلامي. ومعلوم أن أنوار العصر الذهبي العربي لم تنطفئ إلا بعد موت الفلسفة وتكفير الفلاسفة.
كان ابن قتيبة الذي لا أنكر عظمته وأهميته التراثية مضادا للفكر الدخيل أو الوافد ويخشى تأثيره، الضار، على المعتقد والثقافة العربية الإسلامية الأصيلة. ووصل به الأمر إلى حد اتهام أرسطو بالبكم أي بالجهل. فإذا كان المعلم الأول جاهلا – أي أرسطو – فما بالك بنا نحن؟ وقد تبعه الإمام الغزالي على الخط نفسه بعد قرن أو قرنين من الزمان فهاجم، طائفة يعتقدون في أنفسهم التميز، وإنما مصدر كفرهم سماع أسماء هائلة كسقراط وأفلاطون وأرسططاليس.. فلما قرع ذلك سمعهم تجملوا باعتقاد الفكر انخراطا في سلكهم وترفعا عن مسايرة الجماهير الدهماء، هكذا نلاحظ أن الوضع لم يتغير تقريبا منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا. فقط اختلفت المصطلحات الهجومية. فالآن أصبح الأصوليون يهاجمون الغزو الفكري للغرب بل وأصبح بعضهم يتحدث عن الاغتيال الثقافي! هذا الموقف الثابت على مدار العصور هو الذي انتصر وترسخ بعد الدخول في عصر الانحطاط، أي بعد موت ابن رشد في نهاية القرن الثاني عشر الميلادي. بالطبع فإن الفيلسوف العربي الأول الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد نفسه ناهيك عن المعتزلة والأدباء والشعراء الكبار اتخذوا موقفا مضادا لهذا الموقف الأصولي الانغلاقي المتزمت. ولكنهم فشلوا في التصدي له أو إيقافه عند حده. فكان أن انتصر عليهم وسحقهم سحقا على مدار العصور. كتاب «تهافت التهافت» لابن رشد لم ينجح في الانتصار على كتاب «تهافت الفلاسفة» للغزالي. فالعامة كانت دائما في جهة الأصوليين لا الفلاسفة. والعامة هي معظم الشعب أما النخبة فأقلية. وسيظل الوضع كذلك ما لم تتثقف الجماهير وتتعلم كما حصل لجماهير أوروبا. بانتظار أن يحدث ذلك فإن كلام إمام مسجد واحد أهم من «ثرثرات» كل المثقفين العرب! والواقع أن الجماهير الشعبية التي يدعوها الغزالي بالدهماء لا تزال في أيدي بعض رجال الدين حتى الآن. وبالتالي فهي معركة ألف سنة لا سنتين أو ثلاث. إنها أكبر معركة في تاريخ الثقافة العربية. لذلك فإن أول خطوة لتدشين التنوير العربي المعاصر هي نبش هذه النصوص العقلانية الكبرى التي طمستها الثقافة الأصولية العربية ومنعت تدريسها أو حتى الاطلاع عليها بحجة أن «من تمنطق فقد تزندق»، ينبغي أن تتوافر مؤلفات فلاسفتنا في المكتبات. ولكن هذا لا يكفي، فالفلسفة العربية الإسلامية تظل، على جرأتها وروعتها، سجينة المناخ الفكري للعصور الوسطى. ينبغي أن نضيف إليها كل الحداثة العلمية والفلسفية الأوروبية. مشروع ضخم يكاد يكسر الظهر.. ولكن على قدر أهل العزم تأتي العزائم!
المصدر: صحيفة الشرق الأوسط