كاتب إماراتي
في سكن الجامعة الكئيب قبل عشرين عاماً من اليوم، كان صديق يعاني العديد «الإشوز»، لكن قرعة الإدارة الجامعية السكنية ألقته في حجرتي، الملل والفراغ والبدعة التي أرجو أن تلقي بمن استحدثها في الدرك الأسفل، والمسماة بالـ«كورسات الصيفية»، والطاقة الجبارة في القدرات الانحرافية، والسكن في «سيح» منعزل أشبه بتجربة جحيمية غاية في القرف، لذا لم يكن من الممكن أن أرد دعوة صديقي في الذهاب بسيارته، والغداء في مطعم المدينة الوحيد للبيتزا، الذي يحتل مكاناً مرموقاً في إحدى محطات البترول بالطبع.
في تلك الأيام كان اسم «مارغريتا» يثير مخيلتي الشابة والمريضة، تناولنا الكثير منها، وذهب معزبي للحساب، وأنا أنتظره، بينما أفرغ بقايا كأس المشروب الغازي في جوفي، مرت خمس دقائق ثم عشر ثم نصف ساعة، وتيقنت بأن السخيف قد شرد، رغم صعوبة تركيب هذا الفعل على شخصيته المريضة، دفعت «ثروة» بمقاييس طلاب تلك الأيام، وعدت بالتاكسي ذي الأطراف الذهبية واللوحة الخضراء إلى السكن.
حين التقينا ثانية، كان يبكي، ألم أقل لكم بأن لديه «إشوز»؟! الكثير من البكاء ورسالة جهزها ليقرأها لي، وهو يقول: أبي هو السبب! حسناً، لقد قابلت والدك مرات عدة، ولم يبدُ لي كمراهق يحب المقالب السخيفة! لا، الحقيقة أن أبي يكرر علي دائماً: إذا أردت أن تعرف صداقة الشخص الحقيقية فآذه بطريقة معينة، ثم انظر إلى ردة فعله، هنا رأى صديقي ــ الذي احتفظ بصداقته إلى اليوم للأسف ــ ردة فعلي وآرائي الحقيقية تجاهه، وتجاه أبيه وقبيلته، ومطعم البيتزا، والخان سائق التاكسي، حتى مارغريتا البائسة، أتذكر أنني نعتها بنعت يستوجب مائة جلدة!
أجتر قصة العشرين عاماً، وأنا أرى الكثير من ملامح جنة الاختلاف في المجتمع اليوم، فذاك الذي نسف أدمغتنا بالدعوة لحرية التعبير، يقاطعك ويصنفك كمنافق، حين تختلف معه في إحدى جزئيات الجزئيات، إن لم تكن نسخة كربونية مني فأنت عدوي، وآخر ينافح عن أن لا رهبانية في الدين طوال توافر خدمة الـ«واي فاي» في مقهاه، وحين تناقشه في قضية شبه دينية، يقول لك: «انته راعي شيشة لا تتدخل في الدين»! لم أفهم تنتقدون احتكار البعض للدين، وحين نحاول «الرز» بوجوهنا تذكروننا بأننا كمغازلجية وثرثرية وشيشية يجب ألا نتحدث بشيء! وبالطبع يخرج بعدها ما في قلوب المخالف تجاهك كصديق ضل الطريق، وما أصعب أن تكتشف ما في قلوب البعض، الذين كنت تحبهم بصدق، لمجرد خلاف فقهي أو سياسي أو إداري، أو حتى خلاف على أفضلية عزوز أو علي ثاني في الأيام الجميلة.
«ما صرّح الحوض عما في أسافله من راسب الطين إلا وهو مضطرب، أغضب صديقك تستعلم مودته، للسر نافذتان السّكر والغضب!».. صب!
المصدر: الإمارات اليوم