كانت غريبة ومثيرة للاشمئزاز حفلة البكاء والعويل التي دعا إليها الغرب وشارك فيها، على الديمقراطية في مصر، وكأنها كانت شجرة وارفة مليئة بالثمار وجاء 30 مليون مصري يدعمهم الجيش وقطعوها، فسالت دماؤها على أحضان السياسيين والصحافيين الغربيين، فارتدوا كلهم السواد على ديمقراطية لم يكن الإخوان المسلمون، حسب آيديولوجيتهم، يعترفون بوجودها، أو مارسوها.
ثم بدأت التهديدات، وذلك دفاعا عن «الإخوان»، واستمر «الإخوان» في ممارسة ما يتفوقون به، أي استفزاز الأغلبية والجيش في مصر، متأكدين من أن الغرب لن يرى سوى جيش بخوذات ورشاشات، وسيتجاهل عن عمد رجال «الإخوان» وهم يطلقون النار من مآذن المساجد التي حولوا قاعاتها إلى سجون وغرف تعذيب وإذلال.
كتبت ماري دييفسكي في صحيفة «إندبندنت» البريطانية، يوم الأحد الماضي: «إن سذاجة (الإخوان) وتقبل الشهادة لعبا دورا في زيادة عدد القتلى، وهذا ليس بعذر». كان «الإخوان» يتطلعون لأن يعاقب الغرب الجيش المصري، هذا هدفهم، فالجيش يعتمد على قرار سياسي واحد، وهناك قيادة تقرر الأمر بإطلاق النار أو عدمه، وبالتالي، وكما توقع «الإخوان»، الذين يعرفون جيدا بأي طريقة يتعاطون مع الغرب، انصب غضب العالم الغربي على قيادة الجيش المصري.
قبل أن يقرر الجيش إنهاء اعتصام «الإخوان» في ميداني «رابعة العدوية» و«النهضة»، كان الأوروبيون ينتقدون السياسة الأميركية في مصر، وطريقة تعاملها مع المؤسسة العسكرية هناك، وتفاهمها مع «الإخوان». كان الأوروبيون متأكدين من أن «الإخوان» يحضّرون فعلا لتفتيت الجيش عبر تنظيمهم السري بين صغار الضباط، وعبر الابتزاز بنشاط الجهاديين الذين تربطهم علاقة بهم في سيناء، كما أنهم كانوا خطيرين إقليميا بعلاقتهم القوية مع تركيا، وأيضا بالخطوط المفتوحة مع إيران. وكانت معلومات الأوروبيين أن «الإخوان» المصريين ذاهبون حتى النهاية.
وإذا صدقنا نظرية المؤامرة، وقد بدأ كثيرون في العالم العربي يصدقونها، فإن خطة الولايات المتحدة قبل أن تنسحب من الشرق الأوسط (ستكون مكتفية نفطا وغازا مع عام 2015، وتصبح قادرة على التصدير عام 2018) كانت تقضي بتثبيت حكم الإخوان المسلمين، في كل منطقة الشرق الأوسط، حتى عندما تلتفت لتركيز سياستها على الصين وآسيا، تحرك «الإخوان» إذا ما احتاجت إلى ذلك في روسيا والصين، حيث التجمعات المسلمة.
كتجربتها السابقة، عندما تدخلت، في إطار «درع الجزيرة»، لإنقاذ البحرين، فحمت تلك الجزيرة من العبث الإيراني، لم تتردد السعودية في الوقوف إلى جانب مصر، لإنقاذ جيشها وحمايتها من مخطط «الإخوان». القرار السعودي لم يكن وليد الساعة؛ فمنذ أكثر من عام والسعودية تتعاون مع دول أخرى لاحتواء الضرر، الذي تسببت به السياسة الخارجية الأميركية.
اعتقد «الإخوان» أن الفوز في الانتخابات نهاية العملية السياسية؛ لم يفكروا للحظة أن الناس انتخبوهم لأسباب، فإذا لم تتحقق، فسيسحبون الثقة منهم. انتظر الجيش وقتا حتى شعر بوجود تململ شعبي من تدخلات «الإخوان» في كل أجهزة الدولة، ما عدا «القوت اليومي للفرد المصري». وإذا كان الجيش يريد إقصاء «الإخوان»، فإن الفريق عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع وقائد القوات المسلحة كان ذكيا بأن أعطى الشعب الأسئلة جرعة جرعة، عما إذا كان يريد أن يحكمه «الإخوان». ثم كان السيسي واضحا عندما قال للشعب: «أحتاج لتفويضكم ودعمكم». وكان له ما أراد.
عندما أطاح الجيش بمرسي من الحكم، كانت مصر على حافة مجاعة. أغلبية الفقراء كانت تعيش فقط، ولأشهر، على رغيف الخبز المدعوم من الدولة، حتى الاستمرار بتوفير الخبز كان في خطر. وعندما ضخت السعودية المال جلبت معها دولة الإمارات العربية المتحدة والكويت (مبلغ 12 مليار دولار)، فكان هذا كافيا لتجنيب مصر كارثة إنسانية.
انشغلت واشنطن بإيجاد طريقة لإنقاذ من اعتقدت أنهم معتدلون، وأنه إذا ما أطيح بهم من الحكم فسيتحولون إلى راديكاليين، لكن «الإخوان» ليسوا بالحركة المعتدلة إطلاقا؛ حاولوا بإحراقهم كنائس الأقباط وأملاكهم بأن يحولوا الصراع إلى صراع مذهبي، لكن المسلمين حموا الكنائس والناس وأصدر السيسي بيانا قال فيه إن الجيش سيعيد بناء كل الكنائس التي أُحرقت.
الديمقراطية التي بكى عليها الغرب وعلى مرسي، ليست حكم الأغلبية، بل حماية حقوق الأقليات. مرسي همّش كل الأقليات في مصر؛ من الأقباط إلى الشباب المثقف الذي لا يمكن لأي دولة عصرية أن تزدهر من دونه. وما تعتقده واشنطن ديمقراطية على يد «الإخوان»، كان في الحقيقة «أخونة» مصر، وهذه كانت ستفشل حتما، وتتحول مصر إلى دولة مفككة. الرئيس باراك أوباما ألغى مناورات النجم الساطع (ألغيت عام 2011)، لكن هذه المناورات التزمت بها أميركا منذ عام 1980، عند توقيع اتفاقية السلام، كما التزمت المساعدات العسكرية (البيت الأبيض علق سرا المساعدات العسكرية لمصر).
ما أقدمت عليه إدارة أوباما كان إخلالا باتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، ودعوة صريحة للجيش المصري للبحث عن مصدر آخر. الآن، إذا تخلى الجيش المصري عن اجتثاث الإرهاب في سيناء، لأنه يريد الانصراف لحماية الداخل، ماذا سيكون عليه الوضع في سيناء، وبالتالي انعكاساته على إسرائيل؟! والأخيرة غازلت «الإخوان»، طوال فترة حكمهم، بسبب الوعود التي قطعوها للأميركيين بشأنها، وهي الآن تطلب من واشنطن عدم زعزعة المؤسسة العسكرية المصرية.
هاجت واشنطن، وسالت الدماء ما بين وزارتي الدفاع والخارجية؛ الأولى تريد إعطاء المجال للجيش، والثانية مصرّة على التمسك بنتائج الانتخابات. الانتخابات في مصر لم تكن نزيهة، أما الانتخابات التي أوصلت حركة حماس إلى الحكم فكانت نزيهة، لماذا قاطعت واشنطن والعالم «حماس»، وعملت مع دول خليجية على نسف المصالحة التي رعاها العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز بين «حماس» و«فتح»؟ ألم تصل «حماس» عبر الانتخابات، وما تردده واشنطن بأنه كان على المصريين والجيش الانتظار حتى أكتوبر (تشرين الأول) المقبل؛ الموعد الذي حدده مرسي لإجراء انتخابات، قد يتطابق مع ما أقدمت عليه حماس في تأجيل الانتخابات منذ 2006، حتى اليوم!
ليس مفهوما كيف لا يهتم الغرب برأي أكثر من مليار مسلم، ويهتم فقط بمصير تنظيم ليس حزبا إنما تحول إلى نوع من «مذهب غامض غير شفاف»، إذ من أين كان يأتي الإخوان المسلمون بالمال قبل الثورة وبعدها وأثناء الاعتصامات؟
إذا قررت واشنطن أن لا تتمسك بأهمية مصر؛ الدولة العربية الأكثر كثافة، التي تصل أفريقيا بالعالم العربي وتسيطر على قناة السويس، فقد رفع المصريون في «ميدان التحرير» صور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
إن ما يحدث في مصر سيقرر مصير المنطقة، وليس ما يحدث في سوريا. السعودية أنقذت مصر من مخالب «الإخوان» بدعمها المؤسسة العسكرية، ولن يكون هناك حوار داخلي في مصر.
تعرف السعودية أن مسؤولية الجيش المصري أبعد من مصر؛ تتضمن إعادة الاستقرار إلى السودان ومواجهة خطر «القاعدة» في ليبيا وسيناء. وتعرف السعودية أن الخطر الأساسي على المنطقة يأتي من «القاعدة» والمتحالفين معها.
المقاتلون الإسلاميون من الشركس والشيشان والداغستان تنظر إليهم روسيا كخطر أمني أساسي. يمكن الآن العمل على تهدئة الأوضاع في المنطقة. وهناك حديث عن زيارة سيقوم بها بوتين إلى مصر. في وثائق «ويكيليكس» يتذكر وزير الدفاع الأميركي السابق روبرت غيتس أن بوتين قال له إن الخطر المستقبلي على روسيا هو إيران!
الآن، أمام التخبط الغربي، لا بد أن الروس يستعدون للعب أدوار إيجابية كثيرة في الشرق الأوسط، والتحالفات الاستراتيجية المستقبلية قد تبرز بعد مرحلة بشار الأسد.
السعودية تريد حماية مصر وسوريا من أن تصبحا دولتين فاشلتين. الموقف السعودي الجديد قد يساهم في تقارب أميركي – روسي، أو يتسبب في تكوين تحالفات جديدة! وعلينا ألا ننسى الصين وحاجتها للنفط الخليجي.
المصدر: صحيفة الشرق الأوسط