صحافي لبناني مقيم في لندن. حائز إجازة في العلوم السياسية من الجامعة الأميركية في بيروت وماجستير من معهد الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن.
هل أصبحت «داعش» الأساس الذي تُبنى عليه سياسات المجتمع الدولي إزاء تعقيدات أزمات الشرق الأوسط، وهنا أتعمد استخدام كلمتي «أزمات» و«تعقيدات» بصيغة الجمع.
أنا لست ممن يجدون الأعذار لـ«داعش» ومن سار على نهجها، ولا من أولئك الذين يجهدون في البحث عن مبررات أو أسباب تخفيفية لجرائمها، إذ لا عذر لمن يرى القتل – والقتل وحده – وسيلة لممارسة السلطة والتعامل مع الناس. ولا أحسب أنه يجوز لنا في القرن الـ21، في خضم ثورة المعلوماتية والتواصل، السماح لجماعات ظلامية وظالمة باحتكار الإسلام، بعدما كان الدارسون في جنديسابور وبغداد وفاس وقرطبة في طليعة مَن مدّنوا البشرية وأسهموا في حضاراتها الإنسانية وتقدمها في مجال العلوم والفلك والطب والفلسفة والترجمة وغيرها.
لا… لا أعذار لـ«داعش» ولا لغيرها من الزُّمَر التي قررت، من دون أن تشاور المسلمين، تشويه سمعة دينهم، وتدمير حيواتهم ومستقبل أجيالهم، فتخوض حربا متخلفة عديمة التكافؤ مع مجتمع دولي قادر في أي لحظة على إفنائها… لا يمنعه من ذلك سوى تحفّظ كتلتين هما: أولا، الجماعات التقدمية والليبرالية التي ترفض، من منطلقات مبدئية، استخدام العنف حتى مع مستخدميه. وثانيا، التيارات العنصرية المتطرفة التي ترى أن البيئات التي نَمَت فيها مثلُ هذه الحركات المتطرفة المتخلفة تستحقها، لأنها – حسب زعمها – إنما هي بيئتها الحاضنة، ومن ثم يجب أن تدفع من استقرارها ثمن احتضانها إياها.
ولكن، مع تأكيد الرفض المبدئي لأي تعايش مع التطرف التكفيري والتهجيري الدموي، أزعم أنه لا يصح أن تختصر هذه الظاهرة الخطيرة كل تعقيدات المنطقة، كما يجب التشديد على أن ثمة جوا إقليميا مسموما وفّر لعملاء ومشبوهين وطغاة تجنيد شباب مغرر به من مختلف أنحاء العالم والزج به في معركة، الغاية منها حرف مسار الثورة الشعبية السورية والقضاء على صدقيتها.
للأسف، لا بد من الإقرار بتأخر الثورة السورية في إعلان براءتها من الدخلاء الذين ادعوا نجدتها قبل الانقلاب عليها بالسلاح والنار.
وأيضا، ينبغي الإقرار بوجود جهات رسمية وإعلامية، عربية وإسلامية، تسير فعلا باتجاه إيجاد الأعذار والمبررات، وهي تنشر تعليقات غبية وعديمة المسؤولية تدافع عن التطرف باعتباره «رد فعل طبيعيا على الظلم» الذي يتعرض له «المسلمون» و«الإسلاميون» في بلداننا. هذه في اعتقادي ديماغوجية خرقاء، هدفها كسب تعاطف التيارات المُحبَطة من ممارسات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية، والتمدد الإيراني، المتغاضى عنه أميركيا وإسرائيليا، على امتداد العراق وبلاد الشام وفي غير مكان من الخليج وشبه الجزيرة العربية، وإخفاق بعض قوى الإسلام السياسي في الاحتفاظ بقوة الدفع التي أتاحت لها مؤقتا بلوغ السلطة في بعض دول «الربيع العربي».
لقد كشفت التطورات المتلاحقة خلال الأسابيع الأخيرة، عن حقيقة – ما عادت تقبل سوء التفسير – هي أن ثمة سلوكيات تستعصي على التجاهل عندما تنكأ جروحا دينية ومذهبية وعنصرية قديمة لم ينسها العالم.. ولن ينساها. وعلينا تذكر كيف فهم النظام السوري المجرم أن ترويج شعار «حماية الأقليات» ضروري لتغطية إجرامه وفساده في الغرب، وحقا تمكن من اتهام الثورة بالتطرف الديني و«بيع» أضاليله لجمهور غربي متحمس أصلا لتصديقه، ناهيك بـ«مؤسسة سلطة» إسرائيلية متناغمة معه منذ عقود كثيرة.
كذلك، انضمت إلى حملة «مكافحة التكفير والتكفيريين» دولة «الولي الفقيه»… التي تفننت في خطف الأجانب خلال عقد الثمانينات ومطلع التسعينات من القرن الماضي في إيران ولبنان وأماكن أخرى من الشرق الأوسط، وهي تمد في أرض فلسطين بالمال والسلاح الجماعات نفسها التي تقاتلها وتتهمها بأنها بيئات حاضنة لـ«التكفير» في سوريا والعراق ولبنان!
أين نحن اليوم؟
باراك أوباما بعد قوله إن «الإيرانيين استراتيجيون وليسوا انتحاريين»، ممهِّدا بذا الطريقَ لتعاون إقليمي وثيق معهم، كرر السخرية من ثوار سوريا المعتدلين بحجة أنهم «شلة من الأطباء والصيادلة والمهندسين غير المؤهلين للتغلب على نظام تدعمه إيران وروسيا».
وبعدما تجاهلت واشنطن، والعواصم الغربية إقدام بشار الأسد على تدمير مدن سوريا واستخدامه السلاح الكيماوي والبراميل المتفجرة بعد سيل من التهديدات الفارغة… ها هي تتحرك في العراق!
لقد تحركت واشنطن بسرعة وحزم – وحسنا فعلت – لوقف فظائع «داعش» بحق الأقليات الدينية المسيحية وغير المسيحية في شمال العراق. وأيضا تحركت بقوة لوقف الابتزاز السياسي الذي مارسه نوري المالكي لأشهر… فوفر لـ«داعش» وكل من قاتل معها وبجوارها مسوغات اجتياح الموصل وجبل سنجار والوصول إلى جلولاء، قرب الحدود مع إيران، بعد مسلسل فظيع من القتل والتشريد وتدمير دور العبادة والمزارات.
إطلاقا، ليس خطأ أن تبادر واشنطن وباريس إلى ضرب «داعش» والضغط لتخليص العراق من المالكي وأمثاله، لكن الخطأ يكمن في «تجزئة الحل» و«الكيل بمكيالين» مع الحالتين العراقية والسورية، مع أن المعطيات السياسية والأمنية هي هي في القطرين الشقيقين.
إن بقاء حكم الأسد، المستند إلى مشروع إقليمي طائفي متعصب، أسس لنشوء حالات تطرف مضاد، ولو حسم المجتمع الدولي أمره في وقت مبكر – كما فعل مع المالكي – ففرض فرضا على الأسد التخلي عن السلطة، لجنّب سوريا الانهيار السياسي والتمزق الطائفي والتدمير العمراني والثقافي والاقتصادي، ولما كان أتاح لشراذم «داعش» وغيرها دخول سوريا من كل حدب وصوب… فتعيث فيها فسادا وإظلاما.
ما يفعله المجتمع الدولي في العراق اليوم ضروري… لكنه ليس كافيا. واستطرادا، فضرب «داعش» وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هوية العراق عبر حكومة تطمئن الجميع ويغيب عنها أولئك الذين تسببوا في إضرام نار الفتنة – مطلوب فعله في سوريا أيضا.
في سوريا أيضا فتنة قاتلة، وهي أيضا مسرح لمؤامرة «تصدير» التطرف، ولن يكون ممكنا السير قدُما نحو حل إنساني وسياسي قابل للحياة في سوريا مع بقاء نظام مارس القتل والتهجير والتطهير الطائفي والعرقي منذ أكثر من ثلاث سنين.
المصدر: الشرق الأوسط
http://classic.aawsat.com/leader.asp?article=783919