كاتب و أكاديمي متخصص في الإعلام الجديد
كان مشهدا مثيرا للإعجاب لأول وهلة.. عشرات المسؤولين في الشركات السعودية والأكاديميين والمتخصصين الذين اجتمعوا تحت مظلة واحدة لمناقشة آليات وتخطيط برامج المسؤولية الاجتماعية في المؤسسات السعودية. المسؤولية الاجتماعية للشركات (Corporate Social Responsibility) تصاعدت في الغرب في العقود الأخيرة كمبادرة من الشركات الغربية في تقديم جزء من أرباحها لمساعدة المجتمع عبر برامج متنوعة يخطط لها بعناية وتدرس آثارها بحيث تحقق أفضل عائد ممكن للمجتمع. هذه البرامج جاءت كمحاولة لإصلاح الخلل الذي تصنعه الرأسمالية من خلال تشجيع الشركات على الربح غير المحدود، ومحاولة أيضا لكسب تعاطف المجتمع والأفراد الذين يرون الأثرياء القلائل في المجتمع يصنعون ثرواتهم المضاعفة بينما من يقومون بالعمل ليل نهار في شركاتهم ينتهي يومهم وجيوبهم خاوية بعد أن أنفقوا مرتباتهم على احتياجاتهم واحتياجات أسرهم.
بالنسبة لي، كان مبهجا جدا أن يكون هناك اهتمام محلي بهذا الأمر، الذي ظهر من خلال المنتدى الأول للمسؤولية الاجتماعية في المنظمات السعودية (أقامته جامعة الدمام الأسبوع الماضي). المسؤولية الاجتماعية بالنسبة لنا ليست مجرد حالة من تقديم شيء للمجتمع، بل هي امتثال لقيمنا الإسلامية والعربية في فعل الخير، ومحاولة من القطاع الخاص لدعم القطاع الحكومي في تطوير المجتمع الذي يحتاج للكثير الكثير من المبادرات والجهد والعطاء..
هذه الصورة الوردية تتغير تدريجيا وأنت تستمع لأوراق العمل في المنتدى، لتكتشف أن عددا كبيرا من الشركات ليست لديها أي برامج مسؤولية اجتماعية، وتكتشف أن هناك تحديات ضخمة، ولتعرف أيضا أنه حتى الشركات الغربية التي ترعى برامج عملاقة في بلادها، لا يوجد لدى فروعها في السعودية أي برامج مماثلة. باختصار، تكتشف أن الطريق ما زال في أوله، وأن هناك تحديات تحتاج للعلاج أكثر من النتائج التي تستحق الاحتفال.
أثناء المنتدى علق أحد الحاضرين متسائلا عن شركات الاتصالات والبنوك التي تحقق أرباحا بالمليارات كل عام، بينما برامجها الاجتماعية متواضعة جدا (مع استثناءات محدودة). هذا النوع من السؤال هو الذي ينبغي أن يتوسع في المجتمع حتى يصبح ثقافة عامة، لأن هذا وحده سيضغط على الشركات والمؤسسات بأنواعها أن تبذل لأجل المجتمع وتفعل المستحيل لتحسين صورتها الذهنية. إذا كان الجمهور لا يبالي عندما يقرر شراء سلعة أو خدمة، وكان المستثمر لا يبالي عندما يشتري الأسهم، وكان الموظف الجديد لا يبالي بتاريخ الشركة التي ينضم لها، عندما لا يبالي أحد، فالدافع لدى الشركات والمؤسسات التجارية على تقديم العطاء للمجتمع سيبقى محدودا جدا، والعكس صحيح..
هذا الضغط من الجمهور على الشركات والمؤسسات صار اليوم ممكنا بشكل أكبر بكثير بفضل الشبكات الاجتماعية والإعلام الجديد. في الحقيقة، كثير من الشركات والمؤسسات حول العالم صارت تهتم اليوم بصورتها الذهنية على الشبكات الاجتماعية، لأن الصورة الذهنية هي العامل الوحيد الذي يؤثر على الكيفية التي يتحدث بها الجمهور عن المنشآت، وهذه الصورة الذهنية تتأثر كثيرا في الغرب بالمسؤولية الاجتماعية.
الشبكات الاجتماعية من جهة أخرى، أسهمت في تطوير برامج المسؤولية الاجتماعية. كانت الشركات والمؤسسات تختار البرامج بناء على اجتهاد منها، بينما اليوم صارت الشركات تستخدم الإعلام الجديد في التواصل مع الجمهور بشكل واسع، وتستفيد من آرائهم في تحديد البرامج التي يقدمونها، وتستفيد من ردود أفعالهم في تقييم نجاح تلك البرامج، وتعتمد على الشبكات الاجتماعية في تقديم معلومات سريعة وصادقة وجذابة عن البرامج التي تقوم بها، معتمدة على مبدأ بسيط وهو أنك عندما تفعل شيئا من أجل الجمهور، ولا يعرف به الجمهور، فإن هذا يعني أن ما فعلته غير موجود بالنسبة لهم..!
تحدثت في المنتدى بشكل مفصل عن دور الشبكات الاجتماعية، وبعض القصص الغربية المميزة، وبعدها سألني أحد الحضور عما إذا كان حديث الشركات عن برامجها الاجتماعية هو نوع من الرياء والمفاخرة بفعل الخير، بدلا من أن تقوم به بصمت كما هو مطلوب!!
بالنسبة لي، هذا عنصر آخر من ثقافتنا الذي يحتاج لتغيير. فعل الخير على المستوى الفردي يحتاج للكثير من الكتمان والإخلاص، ولكن فعل الخير للمجتمع على المستوى المؤسساتي ينبغي أن يكون حديثنا صباح مساء، نبحث عن النماذج المميزة، ونشجع الشركات والمؤسسات التي تقوم بها، ونساعدها، ونشتري من خدماتها، ونعاقب من لا يقوم بمسؤوليته نحو المجتمع بخلاف ذلك. بناء ثقافة العطاء وخدمة المجتمع يحتاج للكثير من الإعلام، والكثير من التواصل الاجتماعي، والكثير من الاحتفال بنماذج العطاء، بلا تردد ولا حياء، فخير لنا أن نتحدث عن النماذج المشرفة ونشجعهم على أن يحكوا لنا تفاصيل ذلك، بدلا من أن تكون الساحة فقط للأدعياء والمزيفين..
قال لي أحد مسؤولي الشركات الحاضرين: الشركات لا تحتاج لبرامج الخدمة الاجتماعية حتى تظهر على السطح، كل ما تحتاجه هي أن ترعى مؤتمرا يحضره أمير المنطقة، وهنا تحقق الشهرة التي تريد، دون الكثير من الجهد والصداع.. هنا خطر ببالي: هل يمكن فعلا أن تكون رعاية المناسبات الوطنية الكبرى محصورة في الشركات التي لديها برامج وميزانيات لا تقل عن المعيار العالمي في خدمة المجتمع وتطويره؟!
المصدر: الوطن أون لاين