مدير تحرير صحيفة الجزيرة
يظن البعض أنها ماتت عام 75، لكن الذي قضى عليها فعلاً هو علي حميدة وأحمد عدوية حين صنع ظهورهما وغيرهما مع تبدل اقتصادي لافت وذائقة فنية جدية، فكان ظهور هذين ونجوميتهما إعلاناً بانتهاء حقبة الطرب والفن، وظهور طبقة جديدة علاقتها بالفن أنه باب الوجاهة وعلامة الرقي، وإن كان لا بد من انحيازه لرؤيتهم وآيديولوجيتهم.
كانت أم كلثوم صورة العرب حين تجمعهم كل خميس، وإن كان الصوت وحده هو الرابط فيتغنون بها مبرهنين أنهم ثقافة ذات لغة واحدة ليس في الجذر اللغوي، بل في الروح والتوجه. كانت الذائقة مشتركة حين كان الوفاء هو الأصل ثم استحكمت الخيانة العاطفية، فأصبح الفن صورة حية للعشق العابر، واسترجاع ثقافة الجواري، فلا بأس أن يحل خالد الشيخ مكان عدوية، ثم تصبح روبي لمعنى الغناء بالجسد إلى أن لحقتها هيفاء وهبي، أما التي رسخت أن البداوة تطغى على المدنية فهي أحلام التي أزاحت فيروز وماجدة الرومي، واستنهضت حقبة «الطقاقات» حتى وصلت طلائعها إلى مصر ولبنان اللذين كانا المصدر والمنابع، فاستحالا إلى محطتين سياحيتين لا قيمة لهما في الأصل سوى ما يمنحهما جمهورهما العابر من قيمة وتأثير.
في زمن أم كلثوم لم يحضر التطرف، لأن الرؤية العامة تستند إلى جدار واحد، لكن حين ظهر عدوية انهار ذلك الجدار فاختل الفن، واختلت معه كل القيم والثوابت بدءاً من فهم الدين وصولاً إلى معنى النخبة والطبقة وتفسيراتهما. كان «الأزهر» مركز المعرفة ثم أضحى، من دون أن يعي، مجرد معهد يدور حوله خلاف كثير. كانت العروبة تجتث كل خلاف إلى أن تشرذمت وتمزقت، فأصبحت منشأ كل الاختلاف والتباين. كانت الثقافة ذات مرجعيات ثابتة، ثم تغلغل فيها علي حميدة فأصبح النزق والارتجال سمتها الرئيسة.
قد يكون ما حدث تنوعاً إيجابياً في إطار الحراك الثقافي ودلالة على النمو الاجتماعي، لكن العرب أعداء التنوع، لم يعرفوه يوماً، ولم يكن جزءاً من ثقافتهم إلى درجة نبذ الابن إن خالف الأسرة، حتى أن معروف الرصافي الذي كتب «الشخصية المحمدية» اشترط عدم نشره إلا بعد 50 عاماً من وفاته، حماية لأسرته من الأذى الذي قد ينالهم بعد موته إن ظهر الكتاب.
العرب ينحازون إلى السلطة القائمة ويتناغمون معها، فحين أرسى الرئيس السادات ثقافة الانفتاح ظهر مطربوه وممثلوه الملائمون، لأن المرحلة دفعت بالسباكين والمهمشين إلى واجهة المجتمع، معلنة تغير أدوات التنافس التقليدية التي عجز التقليديون عن استيعابها، لذلك توجب ذوبانهم ومعهم كل القيم الجمالية بدءاً من الكرافتة.
حين تمكنت ثروة الخليج من المنصة العربية جعلت نمطها هو السائد وزهو المعتبر انتقاماً من مرحلة الإقصاء التي طاولتها حين كانت مصر وعرب الشمال هم منابر المعرفة ومركز الثقافة.
كسبت آمال ماهر شهرتها، لأنها استحضرت أم كلثوم الكامنة في الذاكرة في صورة شابة، لكنها حين «تمجلست» استنكرت شكلها الذي لم يصنع مجدها، فاستخدمت أموال رائحة أم كلثوم لتصنع نفسها وجهاً جديداً. العرب هم كذلك سريعو التعلق، سريعو الانفصال، ولعل ارتفاع نسبة الطلاق تؤكد أن علاقتهم بالوفاء عابرة لا تدوم، لأن الانفتاح سلبهم كسر كل قيمة، والمفارقة أنه نشأ بعد وفاة أم كلثوم، وإلا كان مصيرها الرجم لو امتد بها العمر حتى أواخر الثمانينات.
http://alhayat.com/Opinion/Jasser-AlJasser/4859608
المصدر: الحياة