ربما يكون السيناريو الأكثر خطراً على مستقبل العالم العربي، ومنطقة الخليج تحديداً، هو نشوء تحالف تبادل منافع بين ثلاثة أطراف تُضمر للدول العربية عداء وكراهية لا حدَّ لهما. وهذه الأطراف الثلاثة هي: إيران وذيولها من التنظيمات الشيعية المتطرفة، وجماعة «الإخوان المسلمين»، والسلفية الجهادية متمثلة بـ «القاعدة» و «داعش». ومثل هذا السيناريو ليس مُستبعداً، على رغم ما يبدو من عداء مُستحكم بين إيران وتنظيماتها الشيعية والسلفية الجهادية، فالتقاء المصالح بين أضلاع «مثلث الخراب» يجعل التئام شملها وارداً جداً في لحظة معينة يحدث فيها اتفاق ضمني على تأجيل الخلافات أو تناسيها إلى حين، وإيجاد شكل من أشكال التعاون على الهدف المشترك، وهو إسقاط الدولة الوطنية العربية.
الرابط بين الطرفين اللذين يبدوان متنافرين، أي إيران والتنظيمات الشيعية من جهة، و «القاعدة» و «داعش» من جهة أخرى، سيكون جماعة «الإخوان المسلمين»، التي حرص مؤسسوها على وضع الأسس لممارسة الانتهازية السياسية من خلال التوصيف، الذي وضعه حسن البنا لها في كتابه «الرسائل»، وهي أنها «دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، وشركة اقتصادية، وهيئة اجتماعية». وهذا الإطار الفضفاض يتيح للجماعة أن تكون كل شيء وعكسه، وأن تتلوّن وفق رياح المصلحة.
علاقة «الإخوان» بإيران علاقة قديمة ووثيقة، وكان وفد التنظيم العالمي لـ «الإخوان المسلمين» من أوائل الوفود التي وصلت طهران للتهنئة بالثورة الإيرانية عام 1979. وفي الوقت الذي أعلنت إيران نيتها تصدير الثورة، واستنفرت كل طاقات العدوان، كان راشد الغنوشي، زعيم «إخوان» تونس يقول: «هناك دلائل كثيرة على تطور الثورة الإسلامية الإيرانية وانتصارها المشرق في التاريخ الحديث للحركة الإسلامية». وحين مات الخميني كتب محمد حامد أبو النصر، المرشد العام لـ «الإخوان» آنذاك: «الإخوان المسلمون يحتسبون عند الله فقيد الإسلام الإمام الخميني، القائد الذي فجر الثورة الإسلامية ضد الطغاة». وترجم مرشد الثورة في إيران علي خامنئي إلى الفارسية كتاب «المستقبل لهذا الدين» لسيد قطب، الأب الروحي والفكري للإرهاب، ووصف خامنئي قطب بأنه «المفكر المجاهد».
وبدت صورة جلية لإمكان التحالف بين «الإخوان» وإيران خلال حكم محمد مرسي لمصر، وزار الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد مصر ليدشن هذا التحالف، قبل أن يطيح الشعب المصري بـ «الإخوان». وبدا ذلك أيضاً في العلاقات الوثيقة، التي عملت إيران على نسجها مع حركة «حماس»، وربما تكشف السنوات المقبلة عن دور إيراني في تعميق الشقاق الفلسطيني، إذ إن تكتيك اختراق الدولة من خلال تنظيم معين، والنفاذ منه إلى السيطرة عليها هو تكتيك إيراني تمت تجربته بنجاح في أكثر من دولة. والعلاقات الإيرانية – السودانية في ظل سيطرة «الإخوان المسلمين» على الحكم في الخرطوم هي نموذج واضح أيضاً.
أما علاقة «الإخوان المسلمين» بـ «القاعدة» فهي طبيعية في ظل القربى الفكرية، وقد خرج تنظيم «القاعدة» من عباءة الفكر «الإخواني» القطبي. ويدرك «الإخوان» أن «القاعدة» والجماعات التكفيرية رصيد مهم لهم من جهتين: الأولى، أن جماعات التكفير التي تحارب الدولة تتركها أضعف وأكثر قابلية للاختراق، ما يتيح لـ «الإخوان» مكاناً أكبر في الساحة السياسية، والثانية: أن النشاط الإرهابي يتيح لـ «الإخوان» أن يسوقوا أنفسهم بوصفهم جماعة «معتدلة». كما أن بعض الحكومات قد تجد نفسها مجبرة على تقبل محاولات «تديين المجال العام» لتدفع عن نفسها تهمة محاربة الإسلام، ومن ثم تكون الأرض مهيأة لتعزيز النفوذ «الإخواني».
وقدّمت تجربة حكم «الإخوان» في مصر نموذجاً لتبادل المنفعة بينهم وبين جماعات تتبع «القاعدة» و «داعش»، يبدو في ما تشهده سيناء من عمليات إرهابية غادرة. إذ أتاح حكم «الإخوان» لهذه الجماعات ملاذاً آمناً ومصادر للتجنيد والتدريب والتسليح، ليتم استخدامها ضد الدولة المصرية في لحظة معينة. وأعلن القيادي «الإخواني» محمد البلتاجي في تصريح متلفز، بعد إسقاط الشعب نظام «الإخوان»، أن ما تشهده سيناء من إرهاب سيتوقف حين يعود محمد مرسي إلى الحكم، ليكشف عن التنسيق بين جماعته والميليشيات الإرهابية.
أما الطرفان اللذان يبدوان نقيضين، أي إيران والسلفية الجهادية، بما في ذلك «القاعدة» و «داعش»، فليسا كذلك في الحقيقة. وتعاون إيران مع «القاعدة» بدأ منذ وقت طويل، وتعددت أشكاله، وليس هناك ما يمنع أن ينضم «داعش» إلى قائمة المتعاونين. والتقت مصالح إيران و «القاعدة» بعد غزو العراق عام 2003، إذ كان من مصلحة إيران أن يشتد ساعد التنظيم في حربه ضد الأميركيين بالعراق، وكان تنظيم «القاعدة» في حاجة إلى من يقدم له السلاح، ووجد في إيران المصدر الملائم. وكان انتقال أعضاء «القاعدة» بين العراق وأفغانستان آنذاك يتم عبر الأراضي الإيرانية. كما أن هناك الكثير من الأدلة على استخدام إيران قادة «القاعدة» الذين كانوا مقيمين لديها في تحقيق أهدافها.
وأرسل أيمن الظواهري رسالة إلى أبو مصعب الزرقاوي طلب منه فيها أن يتجنب استهداف «عوام الشيعة» في العراق. وطرح الظواهري السؤال التالي على الزرقاوي: «هل تناسى الإخوة أن كلاً منا والإيرانيين في حاجة إلى أن يكفّ كل منا أذاه عن الآخر في هذا الوقت الذي يستهدفنا فيه الأميركيون؟».
وسيؤدي «الإخوان» في هذا التحالف دور «المحلل»، الذي يرتبط بكل من الطرفين الآخرين بعلاقات وثيقة. وسيوظف «الإخوان» تنظيمهم الدولي، الذي يمتلك خبرات طويلة في التآمر، من أجل توفير التغطية المناسبة، وتيسير سبل اللقاء، وعقد الاجتماعات، وتبادل المعلومات، وتوفير المتطلبات اللوجستية والاتصالات الآمنة. وستكون الخلايا الإيرانية النائمة في دول الخليج عنصراً فاعلاً في هذا المخطط.
لماذا تزيد فرص عقد هذا التحالف الآن؟ الجواب يتعلق بالخسائر التي لحقت بمشاريع الأطراف الثلاثة أخيراً. فإيران يتم حصارها بقوة في الوقت الذي ظنت أن اتفاقها مع الولايات المتحدة سيخرجها من عزلتها. والنبذ الذي واجهته إيران في القمة الإسلامية الأخيرة، واللهجة التي ظهرت في البيان الختامي كانت رسالة واضحة. كما أن إجهاض المخطط الإيراني في اليمن، وتصنيف «حزب الله» كمنظمة إرهابية، وما أظهرته دول الخليج العربية من قوة وتماسك وقدرة على المبادرة، كل ذلك يجعل إيران تشعر بأنها تحتاج إلى تحريك أذرع تابعة، وتوظيف من يخوض عنها حروباً بالوكالة.
و «الإخوان» يشهدون تهاوي مشروعهم، الذي توهموا أنهم حققوه، وتحولت فترات انتصارهم القصيرة إلى لعنة عليهم، وأصبحوا أعداء للشعوب العربية، التي اكتشفت انتهازيتهم وفشلهم. وبعد انهيار حكم «الإخوان» في مصر، وإحباط مخططاتهم الانقلابية، واستعادة السودان جزئياً إلى محيطه العربي، وتصنيف «الإخوان» جماعة إرهابية في كثير من الدول العربية، سيتلقفون اليد الإيرانية الممدودة.
و «الرفاق» في «داعش» و «القاعدة» ليسوا في أحسن حالاتهم. فـ «داعش» الذي كانت تسقط في يده المدن والبلدات بين عشية وضحاها يخسر الآن أراضي «الدولة» المزعومة في العراق وسورية. والازدهار الاقتصادي الذي تحقق بفعل مبيعات النفط، يوشك أن ينقلب عسراً، والدائرة تضيق إقليمياً وعالمياً على أبو بكر البغدادي وتابعيه، والهجرة إلى «داعش» أصبحت هجرة منه. و «القاعدة» ليس أحسن حالاً. ووجود «الإخوان المسلمين» طرفاً في التحالف سيسهل على «القاعدة» و «داعش» إيجاد تخريجات تتيح لهما التعاون مع إيران، وليس أسهل من الفتاوى، التي يتم تفصيلها لتلائم الظرف الصعب، وتُسبغ عليه شرعية دينية.
دول مجلس التعاون، والدول العربية عامة، مطالبة بأن تستعد لمنع التئام هذا التحالف. وذلك من خلال تفكيك الخطاب الدعائي لأطرافه سواء في ادعائهم المظلومية أو نصرة الإسلام، وإيجاد خطاب إسلامي مضاد يمثل الإسلام السمح والمستنير، الذي يختطفه هؤلاء لتمرير أجنداتهم وتحقيق مصالحهم في الوصول إلى الحكم أو الهيمنة على مقدرات المنطقة وشعوبها.
المصدر: الحياة