* د. علي بن تميم
اختار الشاعر الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي عنواناً دالاً لرائعته الشعرية، يحمل بعداً رؤيوياً وآفاقاً جمالية، وليس من شك في أن محمد بن راشد، من خلال هذا العنوان «الدرب واضح»، يسعى إلى زعزعة المعنى الأولي البسيط لوضوح الدرب، ليصوغ دلالة مركبة ذات بعدين: سياسي يتضح بعد الانتهاء من قراءة النص، وجمالي يحمل دلالة تجمع بين العقل والمشاعر والحكمة.
ففي النص لحظات حميمية مملوءة بالمحبة ومشاعر الأخوة، ولحظات أخرى تؤكد ضرورة رجوع السادرين في غيهم إلى العقل، فالقصيدة، وهي تكشف الدرب الواضح الذي تسلكه الإمارات، تشير إلى الدروب الملتوية التي سارت فيها قطر، فالعنوان ينطوي على تعرية وفضح للدروب الملتوية عن طريق تبيان جماليات الدرب الواضح الذي اختطته الإمارات لنفسها وشهد به العدو قبل الصديق.
فالطرق نوعان، كما قال الشاعر القديم: «أمامك فانظر أي نهجيك تنهج طريقان شتى: مستقيم وأعوج» اختار الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم التعبير عن موقفه من خلال هذا النص الشعري الدال الذي ينتمي إلى النوع الذي عرفه البلاغيون بالسهل الممتنع. وهذا الاختيار يتناغم مع منظور الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم المعرفي وهو يصور الروح الجديدة في الإمارات، ويسعى للدفاع عنها أمام من يسعى إلى تشويهها، فشعر الشيخ محمد بن راشد هو لون من التعبير عن الذات الجمعية الإماراتية، وهي تواجه تحديات العصر، وهو دفاع عن هذه الذات وتبيان للطرق الملتوية التي يسلكها بعضهم، وأعني قطر، التي سعت لدق أسافين الفتنة لتدمير عرى الاتحاد والتعاون الخليجي وتقطيع أواصر المحبة بين الحكام والشعوب في دول الخليج العربي.
لكن «الدرب واضح» بوح شعري جميل يتجاوز سمات النص الشعري السياسي ليرسم حالة شعرية تتطلع إلى عالم خالٍ من الإرهاب والفتن والمراوغة، عالم يقوم على المحبة وينبني على الأخلاق.
تبدأ قصيدة «الدرب واضح» بلفت النظر إلى وعي الشيخ محمد بن راشد إلى الرسالة التي يؤديها شعره، وإن نتاجه الشعري بمجمله جزء فاعل في بنية الحياة العامة في الإمارات وليس مجرد زينة تضاف إليها.
وقد كان من الطبيعي أن تتصدر القصيدة بعلاقة الأخوة والمحبة التي تربط صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم بأخيه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهي علاقة تسعى إلى خدمة الإمارات ونجاحها وازدهارها والإعلاء من شأنها والدفاع عن مصالحها وبقائها موحدة والسير بها قدماً نحو مستقبل متميز. ويرسم النص علاقة فريدة بين القائدين تقوم على المحبة والتفاني في خدمة الوطن، متغنياً بالخصال القيادية التي يتحلى بها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ويرسمها بلغة شعرية معبرة يبرز فيها الشيخ محمد بن زايد فارساً يذود عن مجتمعه.
وما أجمل هذا الإخاء وما أنبله، فالقائدان متوافقان قلباً وقالباً من خلال ثنائية متناغمة عمادها الحب وسداها الإخلاص: «أنا وهو لدارنا بالضماني عا قلب واحد حافظين الأمانة»، وكأن هذه الأبيات مرآة صادقة تعكس عبارة الشيخ محمد بن زايد الشهيرة، والتي سارت بدورها مثلاً وشعاراً وطنياً جامعاً «البيت متوحد»: «عوني وأخويه وإن أناديه جاني وإذا يناديني ألبي عشانه».
إن في أبيات الشيخ محمد بن راشد روح أبي الطيب المتنبي التي تجعل من الشعر رسالة لا ينفصل الجمالي عن الفكري أو السياسي فيها، وما قاله الشيخ محمد بن راشد في أخيه الشيخ محمد بن زايد يبين أن الفضل يعرفه ذووه: «فارس حياته في ثباته كفاني أثبت من أثبت ثابت جنانه حصنه حصين محصن بالعياني متحصن بحصنه لناره ودخانه»، يذكر مفتتح قصيدة الشيخ محمد بن راشد، بتلك العلاقة الحية النابضة بينه وبين الشعر، مشبهاً المعاني بالخيل، تلك التي تعدو لكنها في اللسان، ومن هنا يعيد تفسير القول الشعبي الشائع: «لسانك حصانك… إلخ»، وقوة الشعر من جهة والشاعر من جهة أخرى الالتزام بالكلمة وعدم خيانتها، والوفاء للمعنى والشعرية العالية هو الأساس، إنها وصف للعلاقة بين الشاعر بشعره كالعلاقة بين الفارس بفرسه، وهو ما يذكرني بقصيدة أبي الطيب المتنبي العظيمة، تلك التي تعد من أعظم اعتذاريات الشعر العربي، يقول أبو الطيب: «وعندي لك الشرد السائرات لا يختصصن من الأرض داراً قواف إذا سرن عن مقولي وثبن الجبال وخضن البحارا»، يجعل أبو الطيب معاني شعره كالخيل الصعبة التي لا تستقر بمجرد أن تخرج من فيه، وهي لا تنتمي لأية بقعة إلا روحه، شاردة سائرة لا تختص بمعالم محددة، مشغولة بالوثب وخوض الصعاب، تماماً مثل مفهوم الشعر عند الشيخ محمد بن راشد في قصيدته «الدرب واضح» .
إن الفروسية التي تتحدث عنها قصيدة الشيخ محمد بن راشد، وهي ترسم ملامح الشيخ محمد بن زايد هي موقف أخلاقي في الجوهر. وسلاح الفارس الذي يحمله هو للدفاع عن هذا الموقف الأخلاقي الذي يؤمن به، ولهذا فإن الفارس وهو يفعل ذلك يذب عن مجتمعه ويمثل ذلك المجتمع بالضرورة. وفي القصيدة يتوحد الفعل مع القول ويتماهى الفارسان: فارس الكلمة وفارس الفعل في شخصية واحدة وتتآزر الكلمة الشاعرة والسيف، فكلاهما يستمد حرارة الدفاع عن الوطن من موقف الفارس الواحد ومن العقيدة التي آمن بها.
وإذا كانت «الدرب واضح» تعلي من قيمة الفروسية فإنها تعلي من قيمة الكلمة الصادقة في مواجهة الكلمة المزيفة. وهو تقابل قرآني جميل بين الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة: «ألم تر كيف ضرب الله مثلًا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء (24) تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون (25) ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار» (سورة إبراهيم) تبدو الإمارات في القصيدة مثالًا ناصعاً للوضوح في الفعل والقول، وتصدر في ذلك عن أخلاق الفروسية التي عرفها الموروث العربي. لهذا كان من الطبيعي أن تنتهي القصيدة بالحديث عن قطر وبالحديث معها. وهو حديث يكشف عن أخلاق الفروسية الإماراتية التي تنحاز للخير وتسعى لدرء الشر عن الجميع، فأهل قطر هم إخوتنا الذين نسعى لحمايتهم وتجنيبهم السوء.
يبدأ النص حديثه مع قطر بتذكيرها بالروابط التاريخية التي تربط بينها وبين دول مجلس التعاون الخليجي، وهي روابط تضرب جذورها عميقاً في التاريخ: «من منبت واحد وشعب وكياني دم ولحم واحد وأرض وديانه» لكن مشكلة القيادة في قطر تتمثل في سعيها إلى البحث عن وجودها خارج هذا التاريخ المشترك الذي يربط دول مجلس التعاون: «ومن سالف في الوقت عشنا زماني مع جارنا والجار أخلف رهانه»، وحين يخذلهم هذا البحث خارج التاريخ، سيدركون أنهم وقعوا في شرك القوى التي تتربص بهم: «والذيب ياكل م الكبار السماني ساعة تغادر سربها باستهانة»، ومن الواضح أن القصيدة تستعيد الحديث النبوي الشريف «إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية»، مؤكداً أن قطر ليس لها إلا مظلتها التاريخية الخليجية، بحكم التاريخ والجغرافيا. أما المظلات الأخرى، تركية كانت أم فارسية فهي تفتت وحدة الرماح الخليجية: «وتأبى الرماح العاليات اللداني أن تتكسر متجمعة بذات خانة»، وهو ما يذكر بقول الشاعر العربي: «كونوا جميعاً يا بني إذا اعترى خطب ولا تتفرقوا آحـــادا تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا، وإذا افترقن تكسرت أفرادا»، الجلي أن الشيخ محمد بن راشد كان يسعى إلى تلك الاستحضارات بقصدية ووعي، لأنه يريد أن يعيد إلى ذاكرة قطر هذه الأمثال التاريخية التي عرفناها وصارت جزءاً من ذاكرتنا الثقافية وكثيراً ما يستحضرها الناس في الأزمات.
والحديث مع قطر وعنها يأخذ بعداً حوارياً وتعليمياً رائعاً ويرفع السياسي إلى مقام جمالي يكشف القوة في حكمتها والحكمة في قوتها من خلال المثل الدال والكلمة الطيبة والنصيحة الصادقة قبل أن يتسع الخرق على الراقع، وبذلك فإن الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم اختصر في هذا النص الشعري الفريد الوجدان الإماراتي والخليجي العام في هذه المرحلة، إدراكاً منه لمخاطر المغامرة التي تخوضها قطر، على نفسها أولًا، وسعياً إلى كلمة ناصحة ربما تعيد شيئاً من العقل المفقود إلى النظام القطري.
* مدير عام أبوظبي للإعلام
المصدر: الاتحاد