خاص لـ هات بوست:
يعد ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -يحفظه الله- فاعلاً سياسياً في مرحلة انتقالية تخوضها المملكة العربية السعودية، فخطاباته تشكل تحوّلاً عميقاً وتحدث أفعاله هزات ارتدادية في وعي الدولة والمجتمع السعودي والعالم كافة.
فالقادة اليوم لا يوصفون بأنهم إداريون أو مصلحون فقط، بل هم فلاسفة الوجود العملي، لا يكتبون رؤاهم على الورق، إنما في نسيج الكينونة نفسها، فلا يُقاس التحول التاريخي بحجم القرارات السياسية المتبعة فحسب، وإنما بما يُحدثه من تغيرات في بنية الوعي الجمعي، وبما يقدّمه -أيضاً-من إعادة تعريف لحدود الممكن والمفكَّر فيه، فخطابه اليوم تحرّر من سطحية الشعارات، ولم يعد بياناً تواصلياً مع شعبه فقط، إنما أصبح أنطولوجيا جديدة للوجود الوطني السعودي، لأن كلمته لا تُقال لتُسمع، بل تُقال لتُغيّر وتحدث أثرا ملموساً.
في قلب هذا التحوّل الوطني السعودي، يبرز ولي العهد بوصفه صانع قرار، وصانع وعي، وفاعلًا مغيراً في التاريخ، لا مجرّد زعيم سياسي؛ لأنه لم يكتفِ بإنتاج خطاب إصلاحي أو تحديثي، بل صاغ (أنطولوجيا) جديدة للوجود السعودي، يحاول من خلالها إعادة صياغة علاقة الدولة بالإنسان، والممكن بالواقع، والفعل بالزمن، والتاريخ بالمستقبل، إنه يسعى لبناء خطاب يعيد بناء الوعي من داخل التجربة السعودية ومراعاة خصوصياتها، ويحرّرها من قيود الحتمية إلى أفق الاختيار الحر والفاعل، إنّ مشروعه لا يقوم على القول فحسب، بل يعمل على تحويل القول إلى كينونة، والفعل إلى مبدأ فلسفي يؤسس لمعنى الوجود الجماعي، من -هنا تنشأ-الإشكالية المركزية: كيف تحوّل خطاب الأمير محمد بن سلمان من أنطولوجيا الرؤية إلى ميتافيزيقا الفعل؟.
حينما أطلق الفيلسوف مارتن هيدجر مقولته الشهيرة: “اللغة بيت الوجود” لم تكن مجرد مقولة عابرة، بل هي خطاب مؤسس لما يمكن أن تحدثه اللغة فهي (مسكن) أو (مأوى) الإنسان الواعي الذي يدرك مدى قدرة هذه اللغة، وقد استحوذ ولي العهد على هذه الملكة حيث لم يحتكر اللغة بوصفها أداة للتواصل السياسي فحسب، بل جعلها وسيلة لاستدعاء وجود جديد، لقدرتها على إعادة ترتيب العلاقة بين الإنسان والمستقبل على أساس الفعل لا الانتظار، لذا يتجاوز الخطاب بهذا المعنى المجاز اللغويّ ليتحول إلى “فعل وجودي” يحرّك بنية الزمن نحو احتمالات جديدة.
وفي تجربة سموه جاء إعلان أن الدولة الحديثة لا تُبنى على التوصيف، وإنما على “إرادة التحوّل” من منظور فلسفي، أي تحويلاً للسياسة إلى أنطولوجيا للوجود الفعلي، تتحقق على مستوى الممارسة الظرفية والصيغ الوجودية برؤية وطنية جديدة، قوامها “الانفتاح، والتجاوز، والفاعلية المستمرة”.
وحين أعلن عن (رؤية 2030)، لم يقدّم وثيقة اقتصادية، بل قدم بياناً وجودياً، يتجاوز التحديد الزمني ليصوغ وعياً جديداً بمعنى التقدّم؛ فـ(رؤية 2030) ليست مجرد وثيقة اقتصادية، إنما تصوّر أنطولوجي للكينونة السعودية في أفقها الممكن، وكان سلاحه في عرض ذلك (اللغة) التي أنتجت الفكرة كما أنتجت الوجود بعد تحقق المشروع فعلياً، وعلى إثر ذلك تحول الخطاب إلى “أنطولوجيا الفعل” التي تضع الإنسان في مركز الوجود الفاعل للواقع.
وتتجلى فلسفة الفعل في تحويل الإرادة إلى جوهر مؤسس، حيث يتعدى العمل بُعده الإداري ليكون تجسيداً للوعي في مسار التاريخ، فالإصلاح والمشاريع الاستراتيجية ليست مجرد إجراءات تنفيذية، إنما هي إعلان عن تحوّل جوهري: “من كيان يُفسَّر بماضيه إلى ذات فاعلة تُعيد صياغة التاريخ بمبادرتها”، هكذا يتحول الفعل إلى ميتافيزيقا للإرادة، تجعل من السياسة إبداعاً، وتجعل القرار وعياً متجسداً، والمستقبل فضاءً غير محدود للإمكان والابتكار.
وبناء على ذلك فإن الفعل عند سموه ليس تتابعاً للإجراءات، وإنما تحقّق للمعنى في الزمن؛ لأنه فعل يحمل وعياً بما وراء ذاته، أي أنه بأدق تعبير “فعل ميتافيزيقي” بالمعنى الفلسفي يتجاوز المصلحة إلى إعادة تعريف الممكن، فحين يعاد هيكلة الاقتصاد، أو فتح مساحات الثقافة، أو إعادة تموضع الدولة في النظام الدولي، فإنّ كل ذلك ليس أفعالاً إداريّة، بل تحولات في البنية الإدراكية للأمة كافة.
ومن -هنا- تتأسس مفارقة لافتة: “فكل فعل تاريخي” في هذا المشروع يحمل “وعياً ميتافيزيقياً” بأنه جزء من عملية “انبثاق كوني جديد” يعيد إدراج المملكة العربية السعودية في مشهد العالم ليس بوصفها تابعاً، بل بوصفها مركز المعنى عينه، إنّها فلسفة الإرادة التي ترى في الفعل جوهر التاريخ، لا نتيجته، وتخلق من ذاته شروط استمراريته، فكل قرار أو مبادرة في مشاريعه لا تُقاس بنتيجتها الظاهرة، بل بقدرتها على تحويل الوعي، خاصة عندما زرع داخل كل خطوة فكرةً تتجاوزها، وكأنّ السياسة -هنا- فنّ لخلق المعنى من داخل الفعل ذاته.
إنّ كل خطوة إصلاحية، وكل مشروع استراتيجي نُفذ باستراتيجية ثاقبة، لأنه في جوهره إعلان عن إعادة ولادة الذات السعودية، إنّها تتجاوز مفهوم الإرادة، حين أصبحت السياسة ضرباً من الخلق، والقرار فعلاً للوعي، والمستقبل مجالاً مفتوحاً للابتكار وروح التجدد.
وبتلك النظرة الثاقبة حوّل ولي العهد في خطاباته ومواقفه ورؤاه المستقبلية (التاريخ) من مرجع إلى مادة تأويلية، ومن سيرة إلى مشروع، فالتاريخ لم يعد ما يُروى، بل ما يُصنع بإرادة واعية. بهذا التحوّل يصبح الحاضر السعودي نقطة التقاء بين الذاكرة والمستقبل، لتصالح الهوية مع الحداثة، وينصهر التراث في بوتقة واحدة مع الحاضر، وحين نحاول أن نقرأ التحوّلات في المملكة العربية السعودية في العقد الأخير من منظور فلسفة التاريخ، سندرك -لا محالة- أننا لا نعيش مجرّد تحديث مؤسساتي، وإنما تحولاً أنطولوجياً في فهم الزمن نفسه؛ لأن الماضي لم يعد نموذجاً ملزِماً، بل مادة تأويلية يُعاد من خلالها تشكيل الحاضر.
ليس التاريخ إذن: في التجربة السعودية الجديدة ماضياً يُستعاد فقط، إنما زمن يُبتكَر، يُعاد إنتاجه ليشكّل فعلاً منفتحاً، وتحدث إزاء ذلك نقلة نوعية فيتحول اليوم من “التاريخ المكرور” إلى “التاريخ المبتكر”، ومن الزمن الذي يُستهلك إلى الزمن الذي يُخلق، وبهذا استطاع سموه-رعاه الله- أن يجعل من الحاضر السعودي نقطة التقاء بين الذاكرة والمستقبل، ويصبح التاريخ استمراراً لفعل الإرادة والوعي، هذا التحوّل الأنطولوجي في معنى الزمن أخرجه من دائرة مغلقة، وجعله انفتاحاً دائماً على الإمكان: من ذاكرةٍ إلى مختبر للفعل، إلى ما نصنعه من وعينا وإرادتنا.
إنّ التفاعل بين أنطولوجيا الخطاب وميتافيزيقا الفعل يكشف عن ولادة نموذج فلسفي سياسي سعودي لم تعرفه المنطقة من قبل، لا يستند فيه إلى المقولات الغربية حول الحداثة أو التنمية، ولا ينغلق على الموروث التقليدي، بين هذا وذاك يبني حداثته الخاصة وأنموذجه الخاص به، بهذا المعنى، يشكّل المشروع السياسي لولي العهد تأسيساً لوعي جديد بالسيادة والنهضة، يحاول جاهداً أن يزاوج بين الأصالة والتجاوز، بين الانتماء والكونية.
أما المفارقة الكبرى في مشروع الأمير محمد بن سلمان فنقله الفعل السياسي من مجاله التنفيذي إلى مجاله الفلسفي، لهذا حققت له السياسة الرشيدة المتبعة للدولة التحول من نموذج إداري إلى نموذج فلسفي في إدارة المعنى، فالتنمية تحوّلت إلى وعي، والهوية إلى مشروع كوني، والطموح إلى حالة وجودية مفتوحة على المستقبل، وكلها غدت أشكالاً من التفكير بالكينونة، وغدت الدولة كائناً مفكّراً يعيد إنتاج ذاته عبر الوعي والفعل معاً.
لقد تبنى صاحب السمو فلسفة التحوّل بوصفها وجوداً، حيث يصبح الفعل نفسه تجسيداً للخطاب، ويغدو الخطاب مرجعاً للفعل، في دائرة توليدية لا تنتهي، وأعاد سموه تعريف الإنسان السعودي في علاقته بالزمن والمصير والإمكان، ونقل التجربة السعودية من مرحلة “الخطاب الذي يصف” إلى مرحلة “الفعل الذي يُؤسِّس”، ومن “التاريخ الذي يُروى” إلى “التاريخ الذي يُكتب من جديد”، كما أسس سموه-وبثقة مطلقة- لما يمكن تسميته بـ (الفكر الفاعل)، فكر لا ينغلق في النظرية ولا يتبخر في الشعارات، بل يتجسّد في البنية المادية والمعنوية للأمة، كمشروع يجمع بين الرؤية الواقعية واستلهام الموروث الأصيل، بين الاقتصاد والأنطولوجيا، بين الإصلاح والخلق الجديد، خلقٌ متواصل للمعنى، تتحوّل الدولة فيه إلى ذاتٍ مفكّرة، والفعل إلى لغة فلسفية تعبّر عن حضورها الفاعل في التاريخ، وبهذا تجاوز منطق التدرج إلى منطق التحوّل الجذري، ومن خطاب الإصلاح إلى “فلسفة الفعل الخلّاق”، حيث تتجلّى الإرادة بوصفها قوة سياسية، ووعياً كونياً يعيد تموضع المملكة العربية السعودية في العالم بصفتها مركزاً للمعنى.