خاص لـ هات بوست:
مرَّت منذ بضعة أيام الذكرى السادسة لرحيل الدكتور محمد شحرور رحمه الله. وكما كان في حياته، لا يزال الرجل محل جدل، والسجالات بين مُحبيه ومنتقديه لا تنتهي؛ بل ظلت تراوح مكانها، تخبو تارةً وتشتعل تارةً أخرى.
على الصعيد الشخصي، أحمل لهذا الرجل الكثير من الامتنان وأعترف بفضله عليّ؛ فقد كان منذ سنوات واحدًا ممن وسّعوا مداركي، ونبهوني إلى فضيلة إعمال العقل التي غابت عن أذهان معظمنا في مرحلةٍ ما من مراحل حياتنا.
ورغم أنني لم أنطلق في رؤيتي له من باب الاتباع، ولم أعتبره قدوةً مطلقةً في كل ما طرحه من أفكار، ولكن الذي لا جدال فيه أن الدكتور محمد شحرور شكّل إضاءة ناصعة وحجرًا ثقيلًا في بركة الركود والركون الفكري الذي كنت أعتقد أنني مطمئنة فيه.
ومن خلال متابعتي أستطيع أن أجد هذا الأثر لدى البعض؛ حيث إنه فتح الأعين وأعاد توجيهها للنص القرآني تفكّرًا وتدبّرًا، وهو ما يتوافق مع أصل النهج المطلوب من كل مسلم مُكلّف. بل لعله أعاد البعض لجادة الإسلام ذاته.
الأساس الذي قام عليه فكر الدكتور محمد شحرور هو رؤيته للنص القرآني باعتباره حيًّا متحركًا مع حركة الحياة وتتابع العصور، ومن هنا رأى ضرورة تجاوز التراث الفقهي السابق وتقديم رؤى وتأويلات تتوافق مع واقع اليوم وأدواته واختلاف مجتمعاته، وهو ما ينسجم مع عالمية القرآن الكريم وصلاحه لكل زمان ومكان. وهي رؤى وتأويلات اتسمت بالجرأة، كما أنها سببت صدمة بلا شك.
وخلال رحلته الفكرية تلك، لم ينتصر لنفسه أو يتعصّب لأفكاره وآرائه، ولم يدّعِ أنه على صوابٍ مطلق، بل دعا بكل وضوح وشجاعة لعدم التسليم بما يقول دون تفكير ومراجعة، حيث قال: “بعد خمسين سنة يجب أن يُعاد النظر في كل ما أكتب”؛ انطلاقًا من حتمية تطور السقف المعرفي على مر السنين.
واللافت أنه أعاد نشر بعض كتبه بالفعل بعد مراجعتها وتنقيحها، وهو ما يستقيم مع منهجه في عدم الجمود، وتنامي الوعي والفهم الذي كان يتبناه.
ورغم أن كتب الدكتور محمد مُتاحة، وكذلك له حلقات كاملة مصوّرة، إلا أنه لم ينجُ من الترصّد والتحريف وتحميله ما لم يقل! صحيح أن النقد حقٌ للجميع، واختلاف الآراء طبيعي، إلا أن البعض اعتمدوا – ولا يزالون – على مقاطع مجتزأة تخدم مواقفهم المسبَقَة من الرجل واعتراضهم عليه! والبعض الآخر يعتبرون أن عدم الاتفاق مع رأيٍ من آرائه يبيح لهم نسف فكره كله! رغم أن المنطق العاقل يقتضي القدرة على الفرز الموضوعي لآراء الإنسان، لا وضعها كلها في سلة واحدة والحكم عليها بالانفعال والعاطفة الغضبى؛ هذا الحكم الذي لم يَطَل آراءه فقط، بل اتهمه في دينه كذلك!
وأمام كل ما تعرّض له ظلّ مترفعًا عفّ اللسان، ولم ينزلق لما انزلق إليه بعض معارضيه.
ثم جاء فوزه بجائزة (التنمية وبناء الدولة) في الدورة الحادية عشرة لجائزة الشيخ زايد للكتاب/2017، عن كتابه (الإسلام والإنسان – من نتائج القراءة المعاصرة)، وإفراد مساحة من ثلاثين حلقة بُثَّت على قناة أبوظبي على مدار أيام شهر رمضان عام 2018، ليؤكد أن الدكتور محمد شحرور لم يكن يسير في درب تجديد الفكر الإسلامي منعزلًا، وأن الفكر الواعي يتلاقى مع القيادة الواعية على أرضٍ واحدة.
وآخِر القول:
“أنا كل عمري أبرهن للناس أن هذا الكتاب صادق، وأن هذا الكتاب رحمة للعالمين، وأن هذا الكتاب الخاتم”
.. محمد شحرور
