لا تفرق إشارة المرور في أي مكان في العالم بين الذاهبين إلى المسجد أو الذاهبين إلى الكنيسة، إنما يجمعهم الامتثال لها بصفتها أداة تنظيمية لمرفق عام هو الطريق الذي يستخدمه الجميع وفق القانون الذي ينظم ذلك الاستخدام. هذا مثال رغم بساطته إلا أنه يمثل مدخلا لقراءة الفرضية التالية: لا يمكن للدولة الوطنية أن تنشأ وتستمر وتزدهر دون مسحة مدنية، وللجدل فإن التعريف الذي أنطلق منه في فهم المدنية هو ما يلي: ألا تتحكم فئة انطلاقا من معتقداتها الخاصة ببقية الفئات وتحملهم عليها، فالسيادة ليست للعقائد الخاصة وإنما للقانون والنظام الذي يساوي بين الجميع.
لا القبيلة ولا الجماعة ولا أي كيان أيديولوجي يمكن له الامتثال لذلك النموذج القائم على النظام والقانون لأنها كيانات تنطلق من أيديولوجياتها بصفتها مبرر الانتماء لذلك الكيان وبالتالي فهي في خصومة مستمرة مع من يختلفون عنها وكل الحروب والصراعات التي عرفها العالم كانت تحمل بعدا أيديولوجيا ظل يمثل وقودها الفعلي.
في لحظة تاريخية وتحول حضاري كبير وصلت الإنسانية لأعظم إنجاز في تاريخها المعاصر والمتمثل في ظهور الدولة الوطنية.
محور الدولة الوطنية ومرتكزها الأول هو التنوع وبالتالي الخروج من زمن الأيديولوجيات الجامعة إلى زمن الوطنية الجامعة؛ الشراكة في الأمن والبناء والمستقبل والتنمية والحياة الكريمة. وفي الدولة الوطنية ظهرت وتطورت المؤسسة بصفتها الجهاز المنظم والمدير لتلك التنوعات ولتلك المصالح المشتركة.
تلك المؤسسات لا عقيدة لها، وإنما هي حِزم من التنظيمات المحايدة والمجردة التي تتعامل دون أدنى تمييز أو تفرقة بين الجميع، تلك المساواة هي لب اللحظة المدنية المحايدة في الدولة الوطنية.
التنوع لا يصنع الثبات ولا يقبل به، والدولة الوطنية بطبعها دولة متغيرة متطورة مواكبة، ذلك أن الممانعة والخوف من المستقبل ومحاولات الثبات عند نهج معين كلها صفات الكيانات الأيديولوجية التي تخاف من كل تحول أو تغيير لأنه سيمثل تهديدا للثبات الذي تمثله العقائدية فالعقائد ثابتة ساكنة لا تتحرك. ولا ينطبق ذلك على الأيديولوجيات الدينية فقط بل يشمل الأيديولوجيات القومية والحزبية أيضا. وبالتالي كل الكيانات التي وإن بدت في شكل دولة وطنية ولكنها تدير الحياة العامة على أساس عقائدي أدى بها إلى حالة من الثبات هي في الواقع دول تواجه تحديات قد تهدد وجودها بالكامل. وكل البلدان التي تشهد حروبا وصراعات مستمرة إلى اليوم هي بلدان ذات بعد أيديولوجي وتتسم بالجمود والخوف والممانعة.
لنأخذ نموذج حركة طالبان العقائدية المتشددة، هل كان من الممكن لتلك الجماعة أن تصنع دولة وطنية؟ بالطبع لا، والسبب هنا ليس اقتصاديا ولا سياسيا ولكنه مرتبط بالدرجة الأولى بعقيدة الحركة التي تجعل منها محورا للكيان ولعلاقات الأفراد مع المؤسسة، المؤسسة التي هناك ليست مؤسسة محايدة بل عقائدية والتنوع هناك لا مكان له.
إيران أيضا رغم وجود الثروات إلا أن النظام هناك بات عبئا على المواطنين وعلى العالم أيضا، فالمؤسسة هناك ليست مدنية محايدة بل مؤدلجة ثابتة وذات مشروع عقائدي طائفي وليست ذات مشروع وطني.
حزب الله في لبنان والحوثيون في اليمن وداعش والإخوان المسلمون وتركيا وقطر أيضا كلها جماعات أو كيانات تواجه أزمات في داخلها أو في محيطها لأنها انتمت في لحظة ما لفكر أو عقيدة أو مشروع لا علاقة له بسلوك وقيم الدولة الوطنية الحديثة.
المستقبل والاستقرار والتنمية كلها ترتبط بالتنوع وسيادة المؤسسات والقانون والنظام وإشارة المرور التي لا تفرق بين ملل وأشكال الواقفين على الضوء الأحمر.
المصدر: عكاظ