هناك دائما، على هذه الأرض، ما يستحق الزيارة. ففي واحد من الأخبار السعيدة القليلة في فرنسا المشوشة بأخبار الخطف والقصف، أعلنت وزارة الثقافة عن إعادة افتتاح متحف بيكاسو أواخر الشهر المقبل. وكان الموعد قد تأجل لعدة أشهر، مثيرا غضبة كلود بيكاسو، نجل الرسام الذي شن حملة على وزيرة الثقافة السابقة وأعلن من على صفحات الجرائد أن فرنسا تستخف بوالده ولا تعيره الاهتمام الذي يستحق.
تترك «السين» وراءك وتصعد من طرف جزيرة «سان لوي» في اتجاه حي «الماريه»، على الضفة اليمنى للنهر، متتبعا متعة السير في الأزقة العتيقة المصفوفة بالحجارة تحت رذاذ خريفي لطيف، وصولا إلى مبنى يقال له «أوتيل ساليه»، حيث تطالعك راية حمراء تحمل توقيع الفنان بنسخة مكبرة. هنا، بين جدران هذا القصر القديم، يقع متحف بيكاسو الذي يضم جزءا مهما من أعمال الرسام الأشهر في القرن العشرين. وقد استغرق تأهيله لاستقبال الزوار وفق أحدث الوسائل، أكثر من 5 سنوات من أعمال الترميم والتحوير والتجهيز ضد حوادث السرقة والحريق. وتولى أشغال الترميم المهندس جان فرنسوا بودان.
وبينما كان الباريسيون يسترخون في إجازاتهم السنوية، كانت سيدة قديرة تدعى آن بالداساري، تشمر ساعديها مع فريق عملها لتشرف على تعليق اللوحات على الجدران. إنها مهمة جلل تستغرق أسابيع وتحتاج للكثير من الذوق والمهارات للتعامل مع أعمال بمئات الملايين، باليورو لا بالدينار العراقي. ومدام بالداساري هي الرئيسة الأخيرة لمتحف بيكاسو. وهي قد استبعدت من منصبها بسبب خلافات سممت الأجواء بينها وبين موظفيها، رغم أنها خبيرة مشهود لها في أعمال بيكاسو. لكن السيدة احتفظت بالرصاصة الأخيرة في جيبها. فبالإضافة إلى الإشراف على الافتتاح وتنسيق المعروضات، وجدت الوقت لوضع كتاب مصور باذخ عن المتحف في 556 صفحة، صدر عن منشورات «فلاماريون»، بالإضافة إلى دليل مصور في 96 صفحة. وهناك دليل أصغر هيأته لتوزيعه على الزوار مجانا.
من المنتظر أن يجري الافتتاح مع ذكرى ميلاد بابلو بيكاسو الذي رأى النور في ملقة، بإسبانيا، في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 1881. ورحل في موجان، بفرنسا، عام 1973. متأثرا بضيق في الرئتين. إنه «وحش فنون»، و«زير نساء»، وواحد من أبرز رواد المدرسة السوريالية في التشكيل، نسف المقاييس التقليدية وبعثر تفاصيل الوجوه وكان ملونا من طراز فذ، مر بمراحل لونية متتابعة، حسب المزاج، وترك بصمته على الرسم في القرن الماضي وكان له آلاف الأتباع والمقلدين من كل الجنسيات.
ورغم أن متحفه الفرنسي لم يفتتح، بعد، بشكل رسمي، فقد أُتيحت الفرصة لآلاف الزوار بالاطلاع على المبنى عندما فتح أبوابه الأسبوع الماضي، بصورة استثنائية، بمناسبة الاحتفال السنوي بأيام التراث. لقد كانت فرصة لرؤية بهو الاستقبال الجديد والسلالم الرخامية التي تعود للقرن السابع عشر، مع عدد من اللوحات الشهيرة التي كانت قد أخذت أماكنها في الأماكن المخصصة لها.
يضم المتحف، في صورته الجديدة، 400 قطعة متنوعة للفنان الغزير الإنتاج الذي خلّف وراءه 50 ألف عمل، بينها 1885 لوحة ملونة، و1228 منحوتة، و7000 رسم، و30 ألف محفورة، و342 منسوجة، و150 دفترا للتخطيطات. وهي أعمال تتوزع اليوم في متاحف عالمية ومجموعات خاصة وتعد ذخيرة لأصحابها، مثل الذهب، تصل قيمتها إلى الملايين وترتفع أسعارها من مزاد لمزاد.
باريس: إنعام كجه جي – الشرق الأوسط