كاتب ومحلل سياسي- لندن
مراجعة جديدة لسياسة الولايات المتحدة في المنطقة العربية. خبر جيّد هذا أم سيئ؟ ليست المراجعة الأولى في تاريخ التدخلات الأميركية، والسوابق ربما تكون كما اللواحق. أزمات أغلقت على “زغل” كما تُقفل الجروح على جراثيمها لتركها تعتمل.
خيارات في الدعم أو العزل لم يكن معظمها صائباً. “ثوابت” مرتبطة بالمصالح لا تتغيّر، وتجارب للتكيّف مع المتغيّرات لا تتوصّل إلى ثبات. فكيفما قلّبت واشنطن الأفكار والمعطيات والنظرة إلى نفسها والعالم لا تلبث أن تبقى في مربّع سياسات تقليدية باتت متكلّسة… قد يُقال إن هذا تقويم متسرّع لتوجّهات لم تُعلن بعد، بل لم تنتهِ إدارة أوباما من درسها، أو أنه يتغافل عن أسس “جديدة” فعلاً لمجرد أنها غير مناسبة للعرب. غير أن المقدمات التي أصبحت في عمق ممارسات هذه الإدارة تشي بما سيأتي.
ينبغي التوضيح أن النيات الأميركية الرامية إلى “الانكفاء” أو “الانسحاب” أو “الاستقالة” من المنطقة ليست مرفوضة، بل مرحباً بها. لكن ما ينبغي نقده وحتى تجريمه هو طريقة تطبيق هذه السياسة ومضمونها وأهدافها. فبعد عقود طويلة أمضتها أميركا في حمل الحكومات على الارتباط بها، مع ما استتبع ذلك من ضغوط مورست وقيود فرضت، ومن سياسات دُفعت الحكومات إلى اعتمادها بأخطائها فقط لأن واشنطن أرادتها. ها هي أميركا تستعد، إذاً، لتوديع هذا النهج للشروع في آخر لا يخلو بدوره من الغوامض والمخاطر. أما القول بأنه يمكن أن يحفّز الحكومات على تفعيل استقلاليتها وقدراتها وقابليتها على المبادرة فينطوي على تداعيات إيجابية للانسحاب الأميركي المزمع، هذا إذا صدق.
واقعياً لا أحد يصدّق أن أميركا لم تعد راغبةً فعلاً في التدخل، كل ما في الأمر أن تجربتها العراقية قادتها إلى تغيير أساليبها. من ذلك مثلاً أنها تريد الاعتماد على أطراف دولية وإقليمية وإنابتها للقيام بأدوار تستنكف هي عن أدائها. ولعل الانسحاب من العراق يعطي نموذجاً لنمط التفكير الأوبامي، رغم أن تفاصيل الاتفاق وُضعت كلّها قبل أن يدخل أوباما البيت الأبيض لكنها صيغت في ضوء المصالح الأميركية والنتائج الفعلية للغزو، وإدارة سلطة الاحتلال للبلد. وما يعيشه العراق حالياً يعكس تلك النتائج، إذ أنه تُرك لمصيره وتحت رحمة حكومة (أو بالأحرى رئيس حكومة) تستمدّ قوتها (وحتى “شرعيتها”) من العِرابة المزدوجة، الأميركية – الإيرانية، ويُفترض فيها أن تعالج مشاكل تأتّى معظمها من الاحتلال، وهي غير راغبة في حلّها. فهذه المشاكل الملامسة يومياً خطر الحرب الأهلية هل هي مسؤولية أميركية أم أن المسؤولية انتفت فور الانسحاب، وهل أن تقاسمها مع إيران هو ميزة للعراق ومصلحة للعراقيين، وما الهدف من تسليم العراق إلى إيران، وهل يعني اعتراف أميركي مبّكر بانتشار النفوذ الإيراني، وفي أي استراتيجية يمكن إدراج هذا النفوذ؟
إلى ذلك، لا بدّ من التساؤل عن توقيت السياسة الأميركية “الجديدة” ودوافعها. ثمة ترابط في ما بينها، فبعد منع العراقيين من استثمار “إيجابيات” الاحتلال وانسحابه، يجري استثمار ظروف المراحل الانتقالية بعد انتفاضات “الربيع العربي” لاعتبار أن المنطقة العربية غرقت في مرحلة ضعف لن تنهض منها، وقد فاقمها الصراع بين التيارات الدينية والمدنية. وهكذا استنتجت واشنطن أن اللحظة حانت لـ “الانسحاب”، فالمنطقة فقدت أهميتها لأنها لم تعد تشكل أي خطر على إسرائيل، بعد دمار سوريا والعراق وتورّط مصر بمشاكلها الداخلية ولهاث إيران وراء تقارب مع أميركا للتخلص من العقوبات لقاء أي ضمانات تُطلب منها بشأن تدفق النفط ومحاربة تنظيم “القاعدة”. وإذا كانت واشنطن زادت توجيه اهتمامها بآسيا لمواجهة النفوذ الصيني المتعاظم، فلا بدّ أنها وضعت في حسابات استراتيجيتها هذه إمكان الاعتماد على إيران.
يبقى أن مراجعة السياسات تعتبر، على ما يقال، إن إقامة سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين من الأولويات. الأرجح أن هناك توافقاً أميركياً – إسرائيلياً على استغلال لحظة الضعف العربية لفرض تسوية “واقعية” (أي مجحفة) على الفلسطينيين. ورغم أن إسرائيل حليفة إقليمية تنوي أميركا اعتمادها في خدمة سياستها “الجديدة”، إلا أنها برهنت عجزها عن إقناع حليفتها بقبول نسبة إجحاف أقل مما تطمع به.
المصدر: صحيفة الاتحاد