للبحث في ملف التحول في خطاب حركة النهضة الإسلامية «إخوان تونس»، طرحت «الاتحاد» العديد من الأسئلة على عدد من السياسيين والأكاديميين والإعلاميين والمهتمين بشؤون هذه الجماعة التي كثيراً ما ترتبط بالتنظيم الدولي للإخوان، والتي نجحت في تغيير ثوبها في كل من تركيا والمغرب في تجربتين جديرتين بالدراسة، والنظر إليهما كمثال ربما ظهرت بعض ملامحه على أرض الواقع.
لكن لحركة النهضة الإسلامية ماضياً مختلفاً في تونس بدأ بالصدام المباشر مع الرئيس الحبيب بورقيبة، وانتهى برموزها في المنافي في عهد الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي لأسباب إيديولوجية وسياسية أساساً، إذ كان «الاتجاه الإسلامي»، وهو الاسم السابق للحركة قد ناور لدخول الحكم، في ظل رفض النخب السياسية التونسية وجود حزب ديني، كما ينص على ذلك قانون الأحزاب التونسي قبل تغيير يناير 2011.
المفكر الإسلامي والباحث في شؤون الجماعات الإسلامية أنس الشابي، عايش حقباً مختلفة مع الإسلاميين في تونس سواء من خلال مسؤولياته السابقة بالمجلس الإسلامي الأعلى في تونس، أو من خلال نقده لطروحات الإسلاميين التونسيين، وهو الذي لم يملك الكثير من المؤلفات التي تدحض نظرياتهم منذ ثمانينيات القرن الماضي.
كيف تترجم التغيير الحاصل في خطاب النهضة كحزب إسلامي في تونس بالأساس على أرض الواقع؟
يقول أنس الشابي: أسأل أولاً: هل حدث فعلاً تغيير في خطاب وفكر النهضة أو أن هناك تلاعباً بالألفاظ وتزويراً لمعانيها؟ وهل يمكن أن يحدث تغيير بنفس الرجال الذين ظلوا يقودون الحركة 40 سنة كاملة بنفس الأرضية العقائدية التي أصرّ المؤتمر العاشر على المحافظة عليها، وهي الرؤية الفكرية والمنهج الأصولي للحركة منذ إقرارها سنة 1986 في مؤتمرها الرابع، وهذه الرؤية تكفِّر المخالف وتدعو إلى تطبيق الشريعة، وتعتبر أن أوطاننا هي دار كفر والجهاد فيها واجب، ثم كيف يمكن أن يحدث تغيير دون أن نقرأ كتابات تبرّر التوجّه الجديد وتنقد السياسات السابقة وتكشف الأخطاء؟ ما حدث لا يعدو أن يكون انحناء للعاصفة وتلاعباً بجزء من النخبة التونسية، وذلك بإيهامها أن حزب حركة النهضة تطور وتونس في انتظار الأوقات الملائمة للعودة بقوة إلى الساحة في انتظار التمكين، وهو المصطلح الأثير لديهم للدلالة على أخونة الدولة والمجتمع، لأنه يجب أن نضع في الاعتبار أن المجتمع التونسي رفض حزب الحركة، وظهر ذلك في انحسار عدد المصوتين له في الانتخابات الأخيرة، وظهر كذلك في فشله الكامل في إدارة الحكم، وهذا الرفض تحقق الحزب من وجوده وحاول معالجته من خلال التخفيف الإعلامي من خطابه العنيف، وإخفاء الوجوه الداعمة للتطرف والإرهاب في مختلف صوره، لقد عودنا هذا الحزب بتزوير بياناته والتراجع عن اتفاقاته حتى الموقعة منها والازدواجية في خطابه.
التمكين
وقال: لدينا مثل عامي تونسي بليغ جاء فيه «من خلال نفقته يظهر عشاؤه»، وهو ينطبق على حالتنا، فحزب الحركة منذ تسلم الحكم لم يقم إلا بمحاولة تنفيذ مشروعه في التمكين الذي استهدف أخونة الدولة والمجتمع، ولكن النتيجة كانت إفلاس الدولة ونهبهم لميزانيتها وتدمير الإدارة التونسية، وعلى المستوى البعيد لا أرى لهم مستقبلا لا في تونس ولا في غيرها، لأن التاريخ لا يعود إلى الخلف، أما على المستوى القريب، فإن الوطن سيتحمل الكثير من المحن وستسيل الدماء للتخلص منهم.
وأكد أن الحركات التي تخلط الدين بالسياسة شمولية تتدخل حتى في خصوصيات منتسبيها وممّا ثبت لدينا أن لحزب حركة النهضة جهاز مخابرات مهمّته مراقبة المنتسبين في سلوكهم والقيام بزيارات مفاجئة لبيوتهم للتحقق من سلوكهم ومن طبيعة صداقاتهم، فمن كانت هذه حاله هل نتصور منه قدرة أو رغبة في الفصل بين العمل السياسي والدعوة الدينية؟ ولأن شعبنا التونسي ذكي ولمّاح لم يثر انتباهه في المؤتمر العاشر سوى السفه وصرف الأموال فيما لا فائدة منه كحفل الافتتاح الذي نظمه لهم متعهد عالمي للحفلات الكبرى، ففي نفس الوقت الذي يصرف فيه هذا الحزب ملايين الدولارات، فيما لا غناء فيه يطالب بالتعويضات لمجرميه الذين صدرت ضدهم أحكام جزائية، إنه نوع من الفصام «الشيزوفرينيا» الذي يعيشه حزب يعلم جيداً أنه مرفوض من محيطه وهو رفض نتلمسه في ردود أفعال المواطنين العاديين تجاههم سواء بنقدهم مباشرة وعلانية أو بالترحم على النظام السابق.
ازدواجية الخطاب
ويقول عمار عمروسة عضو مجلس نواب الشعب، وعضو المكتب السياسي لحزب العمال، إنّ حركة النهضة عُرفت بتعدد خطاباتها التي تكيّفت على الدوام مع الأوضاع السائدة سواء كانت وطنية أو إقليمية أو دولية، وإن حركة النهضة عُرفت بازدواجية الخطاب والمهم بالنسبة إليها هو المحافظة على مواقعها في الحكم وعلى الغنائم التي جنتها، وكذلك تجنب المصير الذي آلت إليه الحركات الإسلامية في المنطقة، التي حاولت التعنّت والوصول إلى الحكم بالطرق العنيفة.
وقال أحمد الصديق الناطق الرسمي للجبهة الشعبية، ورئيس كتلتها البرلمانية، إن المنطلقات الفكرية والمقولات الأساسية لهذه الحركة منذ نشأتها لم يتمّ تغييرها بالعمق المطلوب، حيث إن كل المراجعات كانت تكتيكية ومندرجة ضمن عقلية المناورة والتكيّف مع الأوضاع. وشدّد على ضرورة أن تكون تلك المراجعات عميقة وصادقة وواضحة، حتى لا يبقى أنصار الحركة بدرجة أولى وباقي مكونات الشعب التونسي، يدورون في حلقة مفرغة من تغيير المصطلحات دون تغيير حقيقي في المفاهيم والسلوكات.
ويذهب الصديق إلى أن الارتباط وثيق بين حركة النهضة وحركة الإخوان المسلمين العالمية المعروفة بجمعها بين ما هو ديني وما هو سياسي، وما هو دعوي وما هو مجتمعي، وكذلك ضلوعها في الإرهاب واعتمادها أسلوب التقيّة وإظهار عكس ما تُبطن.
جذب أنظار
أما الباحث ياسين النابلي المتخصص في الحركات الإسلامية فيرى أن قضية الفصل بين الدعوي والسياسي قد جَذَبت أنظار المتابعين لمشروع الإسلام السياسي في تونس وخارجها، وذهبت الكثير من التأويلات إلى الإشادة العامة بالنموذج التونسي، الذي نأى بنفسه عن النماذج الإسلامية السائدة في المنطقة، على غرار الإخوان المسلمين بمصر، وأخذ يندرج في سياقه المحلي المتجه نحو «العلمنة» والديمقراطية على حد وصف العديد من القراءات.
ويضيف أن أوضاع حركة النهضة الإسلامية، وإن كانت مختلفة من زاوية الاندماج الاجتماعي ومضامين الخطاب السياسي عن بعض الكيانات الإسلامية المجاورة، فإن الإعلان عن الفصل بين الدعوة والسياسة لا يعكس انقلاباً فكرياً داخل الحركة لتصبح بذلك منخرطة بشكل كلي ومبدئي في مسارات التحديث والعَلمَنة بأبعادها الثقافية والاجتماعية والسياسية، وإنما يندرج هذا التمايز الجديد في إطار الفصل الوظيفي داخل المشروع الإسلامي الواحد والشامل، الذي يحمل أبعاداً عقائدية واجتماعية واقتصادية وحزبية.
وهو ما عبّر عنه رئيس الحركة نفسه حين صرّح بأنه «فلسفياً ليس هناك فصل بين الدين والدنيا، ولكن كون الإسلام رسالة شاملة لا يعني أن الأدوات التي تخدمه ينبغي أن تكون أيضاً شاملة، فشمولية الفكرة لا تعني شمولية التنظيم». وتلوح الإشارة واضحة في هذا الشاهد إلى أن الفصل المعلن لا يمس الطرح الشمولي للفكرة الإسلامية بقدر ما يهدف إلى الفصل الوظيفي بين أبعاد المشروع.
وأضاف: لعلَّ هذا الإجراء اقتضته الحاجة إلى إعادة تشكيل مشروع الإسلام السياسي التونسي على ضوء متطلبات التجدد الداخلي لأجهزته التنظيمية، وتكيّفاً مع ما فرضته السياقات المحلية والإقليمية والدولية من متغيرات لم تعد تسمح باستمرار هذا المشروع بأشكاله القديمة. فعلى مستوى الأوضاع الداخلية لحركة النهضة – وعلى عكس ما تذهب إليه بعض القراءات من أن الحركة ستصبح جسداً سياسياً متحرراً من البعد الديني – فإن هذا الفصل يهدف إلى رد الاعتبار للجانب الدعوي الذي كاد يذوب في التوجه السياسي البراغماتي للحركة، وستتجه الأجهزة الدعوية للحركة التي ستتحرر بمقتضى الفصل من الإكراهات السياسية نحو إعادة الانتشار في الفضاء الديني العام – أحد الأطر التعبوية للحركة – الذي اكتسحته أطروحات السلفية الجهادية المنافسة. وتتقاطع هذه الحاجة الداخلية لإعادة تنظيم أبعاد المشروع الإسلامي الشامل مع السياقات الخارجية التي تمارس ضغوطاً سياسية ودعائية على الحركة الإسلامية من خلال اتهامها بالمزج بين الدين والسياسة».
ويرى الإعلامي التونسي محمد بوعود أن كثيراً من التونسيين يرون أن حركة النهضة استطاعت من خلال مؤتمرها العاشر أن تتجنب المصير المحتوم للإخوان المسلمين في المنطقة، والذين لا تدلّ الأحداث ومجريات التغيرات الدولية على أن لهم مستقبلا في صنع مصير الشعوب.
ويذهب الكثيرون، مثل المحلل السياسي الجمعي القاسمي إلى أن حركة النهضة تستطيع أن تواصل لعب دور سياسي لن يكون في مقدّمة الترتيب، لكنها لن تندثر من المشهد السياسي، وستبقى معوّلة دائماً على وجود رئيس متعاطف معها في قصر قرطاج، وعلى وجود أحزاب ضعيفة تسعى للتحالف معها.
القفز إلى أعلى
المحلل السياسي منذر ثابت الذي خبر الإسلاميين منذ ثمانينيات القرن الماضي، أكد أن توصيف الموقف من حركة النهضة في علاقة بمؤتمرها العاشر، يستوعبه مفهوم توازي الفرضيات، فلا يمكن إصدار حكم جازم بصدد تطور الحركة نحو قفزة نوعية تقطع عبرها العلاقة مع التراث الإخواني وتعبيراته التنظيمية من أجل إعادة صياغة الأرضية الفكرية والهندسة التنظيمية لقوة سياسية تتعالى على الحراك الدعوي الذي تشير إلى أنه شأن الجمعيات الأهلية والنخب المثقفة.
وقال: إن الأمر يتعلق بهزيمة سياسية سقط ضمنها، شعار الدولة الإسلامية من المنطوق الرسمي للحركة أو على الأقل رحل أو كبت في غياهب التنظيمات الأهلية المكلفة بمواصلة الدعوة، وفي هذه الخطوة تراجع فرضته وقائع فارقة لا تقبل الدفع أو الإنكار من أبرزها سقوط التجربة الإخوانية في جل البلدان الواقعة ضمن الرقعة الإسلامية والعربية.
فقد مثل سقوط محمد مرسي في مصر نقطة مفصلية في مسار الإسلام السياسي في المنطقة، فانكسار التنظيم الأم وانزلاق حزب العدالة والتنمية في تركيا إلى وحل الصراع الدولي في الشرق الأوسط دفع بحركة النهضة إلى اتخاذ هذه الخطوة الاحترازية توقياً من إمكانية انقلاب ميزان القوى ضدها محلياً فبعد تجربة حكم فاشلة تركت الحركة قصر الحكومة بالقصبة مع ديون كبيرة وأمن منهار ترجمه تصاعد الإرهاب في عهدها وتفاقم عجز الموازنة وانهيار الاستقرار الاجتماعي، لكن هزيمة السلطة لم تكن مع ذلك إيذاناً بنهاية الحلم الإسلامي في تونس، حيث كانت تفاهمات باريس بين الباجي قايد السبسي وزعيم النهضة راشد الغنوشي عقد إنقاذ للربيع التونسي، وهو ربيع يفقد كل معناه بخروج النهضة كلياً من لعبة الحكم والسلطة ولعل الوصل بين مفردات خطاب الباجي والغنوشي يمكننا من فك شفرة هذا العقد المبهم الذي لا يزال يتحكم في المعادلة السياسية للسلطة في تونس.
وقال: إن النهضة تتراجع خطوة إلى الخلف لتحسن القفز إلى أعلى هرم السلطة في قادم المواعيد الانتخابية، وهو قفز لا ينسى الغنوشي فيه الموعد الانتخابي المنظور، وهو الانتخابات البلدية التي ستحدد ميزان القوى في ظرف تتبعثر فيه أوراق القوى العلمانية وتتشتت صفوفها.
التخلص من «الإخوان» صعب
أما الناشط السياسي والحقوقي، عبد القادر الحمدوني، فقد أكد أن النهضة لم تتغير بقدر ما استوعبت دروس التغيرات الإقليمية وما حصل للإخوان في مصر، وأدركت أنها قد تخسر دورها كلاعب رئيسي في تونس لو ظلت بشكلها القديم ممثلة للإسلام السياسي، ومسايرة للموجة السلفية العنيفة التي كانت قد مارستها ضد الجامعات والنقابات والجمعيات.
وأشار الحمدوني إلى أن ما قامت به النهضة طيلة الأعوام الأولى بعد 14 يناير 2011 وأثناء حكمها يؤكد حقيقة فكرها، ومن الصعب التخلص منه بمجرد إعلان المسألة في مؤتمر تعمدت فيه النهضة دعوة الشخصيات الأجنبية للمناورة والتسويق فقط، ومن أجل إقناعهم بأنها حزب مدني ولا صلة له بـ «الإخوان»، والحال أنها احتلت الشوارع وكفرت المعارضين لها والمبدعين من فنانين ومسرحيين وغيرهم لترويع الخصوم وخصوصاً الحداثيين والعلمانيين.
وقال منذر بالضيافي الباحث المتخصص في الحركات الإسلامية، إن المراجعات التي أقدمت عليها النهضة، فرضتها التحولات الكبرى الجارية في المنطقة وفي العالم، خاصة بعد ما سمي «ثورات الربيع العربي»، إضافة إلى تداعيات «الزلزال المصري» المتمثل في سقوط حكم الإخوان، وتلقي الجماعة أكبر ضربة موجعة في تاريخها، كانت لها ارتدادات مباشرة على فروعها ومنها تونس، حيث أجبرت «النهضة» على ترك الحكم استبعاداً لإعادة إنتاج ما حدث في القاهرة.
وأضاف بالضيافي أن كل ما حصل في مصر دفع النهضة إلى الإقدام على قراءة نقدية للإرث الفكري «الإخواني»، والإعلان صراحة وأمام كل دول العالم الممثلة بسفرائها، عن التبرؤ من أي صلة بجماعة «الإخوان المسلمين»، مشدداً على أنه يستبعد حدوث قطيعة وفك ارتباط مع «الإخوان».
التبرؤ من الإسلام السياسي
ويقول نائب رئيس البرلمان ونائب رئيس حركة النهضة عبد الفتاح مورو: إن ما ظل يروج عن انتماء الحركة للإسلام السياسي لا يعبر عن حقيقة الهوية الراهنة للنهضة، فالإسلام السياسي لا يعكس مضمون المشروع المستقبلي الذي تحمله حركة النهضة، مؤكداً أن البيان الختامي للمؤتمر العاشر للنهضة تضمن كل تفاصيل ذلك رافضاً التعارض بين قيم الإسلام وقيم المعاصرة.
وأوضح أن البيان الختامي للمؤتمر، بين أيضاً أن من بين الخيارات الإستراتيجية للحزب، اختيار الحزب لهوية جديدة تجعل منه حزباً وطنياً ينبذ تقسيم المجتمع وتفريقه خدمة للمصالح الوطنية الكبرى، وذلك إلى جانب تخصصه في العمل السياسي، وترك مجالات الإصلاح الديني لمكونات المجتمع المدني.
البلاد والعباد
وقال رفيق عبد السلام، وزير الخارجية السابق وصهر زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي: «حزب النهضة في أشد الحاجة إلى تقديم إجابات أساسية حول مشاغل واهتمامات التونسيين في الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتنموية، وما هو مطروح اليوم هو الاستشراف والنجاح في كسب رهان التطوير والتجديد بما يستجيب لحاجات البلاد وينفع العباد»، مشدداً على أن المطروح اليوم على حركة النهضة هو تعميق توجهها في الحداثة والانفتاح على المحيط في كنف الحفاظ على الهوية العربية الإسلامية لتونس.
أما القيادي في حركة النهضة، لطفي زيتون، فقد أشار إلى أن المؤتمر العاشر الذي عقدته الحركة مؤخراً أنهى فصلاً من التوتر بين حركة النهضة والدولة تجاوزت مدته نحو أربعة عقود كاملة، مضيفاً أن النهضة تخلصت الآن من سجن الإسلام السياسي الذي حشرت فيه لأعوام من قبل غالبية السياسيين الذي لا شك على حد تعبيره – قد أدركوا أن الحزب مدني عصري، ولا علاقة له بتنظيم «الإخوان المسلمين» الذي لم تنتم إليه النهضة أصلاً.
ويقول الباحث المصري في شؤون الحركات الإسلامية أحمد عطا: إن حزب النهضة التونسي يرتبط بالتنظيم الدولي للإخوان ارتباطاً روحياً وعقائدياً مبنياً على السمع والطاعة، ولا يستطيع أن يتخذ الغنوشي قراراً دون الرجوع للتنظيم الدولي، فهو المرجعية لإخوان شمال أفريقيا الذين يرأسهم الغنوشي، وقد اتخذ هذا القرار بالفصل الشكلي للدين عن الدولة لأسباب عديدة تصب جميعها في عودة حركة النهضة للمشهد السياسي بقوة بعد نزع الصبغة الدينية عن حزب النهضة ليندمج مع الأحزاب العلمانية التي تتسيَّد المشهد السياسي في تونس ولها روابط مع الجمعيات المدنية العلمانية في فرنسا والتي تدعم التيار العلماني في تونس وداخل منطقة اليورو، وخاصة فرنسا.
ومن ناحية أخرى يريد الغنوشي أن ينهي العزلة التي تعيشها جماعة الإخوان بعد الإطاحة بمكتب الإرشاد وقيادته في مصر بعد ثورة 30 يونيو، وهي عزلة سياسية في المقام الأول بعد اتهام جماعة الإخوان بحمل السلاح في مواجهة المجتمع المصري من جيش وشرطة وشعب ووقوع المئات من الضحايا، مما تسبب في انهيار فكرة الإسلام الوسطي ليس في مصر فقط، ولكن في منطقة الشرق الأوسط نظراً لتبني الإخوان فكرة حمل السلاح أثناء فض اعتصامي ميداني رابعة والنهضة، ولهذا رأى التنظيم الدولي من خلال لقاء تم سراً في أمستردام جمع الملياردير إبراهيم منير وراشد الغنوشي وقيادات حزب النهضة ضرورة إعلان الفصل الشكلي لحزب النهضة ليكون مخرجاً لعودة الإخوان تحت مظلة الخروج على أحد مبادئ الجماعة، وهو عدم فصل الدين عن السياسة، وهذا يتأتى وفقاً لخطة المسارات البديلة التي يتبناها التنظيم الدولي لاستعادة الإخوان في الشارع العربي، فتم تكليف الغنوشي بهذا الملف، وأكد عطا أن الوضع في القاهرة وهي ملتقى مكتب الإرشاد والحاضنة الأم لجميع الفصائل الإخوانية على مستوى الشرق الأوسط مختلف، حيث لا يمكن إعلان هذا الفصل من القاهرة لوجود ثوابت يصدرها مكتب إرشاد مصر لإخوان العالم، إضافة إلى أن الشارع المصري انصرف تماماً عن فكرة الإسلام الوسطي التي كان يتبناها إخوان مصر، ولكن تبقى نتائج مهمة، وهي أن هذا الفصل سوف لا يعود على مكتب الإرشاد المصري بأي فائدة، خصوصاً وأنهم قيد المحاكمات، كما أن ملف إخوان مصر يختلف تماماً عن إخوان شمال أفريقيا برئاسة الغنوشي نظراً لمجريات الأحداث السياسية وردود الأفعال في كل من مصر وتونس، وسيواجه الغنوشي معارضة قوية من الأحزاب الدينية المحافظة داخل تونس ومعظمهم من السلفية الجهادية، وجماعة أنصار الشريعة المتعددة والمتمثلة في جماعة جمال أبو عياض.
أما الباحث في شؤون الحركات الإسلامية والإرهاب الدولي منير أديب، فقال: الغنوشي مفكر وفيلسوف وأعداد المفكرين والفلاسفة داخل التنظيمات السياسية والدينية بشكل عام قليلة، وحين يتواجد مفكر أو شاعر داخل هذه التنظيمات يكون وجوده ضعيفاً أو يتم تهميشه، لأنه لو اعترض على فكرة التنظيم فلن يكون جزءاً منه، وعليه أن ينصاع لأمر التنظيم ولا يطرح أفكاراً من شأنها ترشيد التنظيم أو محاولة تهذيبه أو التمرد على أفكاره، والغنوشي كان جزءاً من هذا المشروع وهو أول من دعا إلى فصل الدين عن السياسة ورفضت أفكاره من قبل إخوان مصر وتعرض له محمود غزلان بالقول، وكل أعضاء مكتب الإرشاد وكانت كل أفكاره مرفوضة.
قال الدكتور كامل عبدالله، الباحث في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، إن الخطوة التي اتخذها حزب النهضة التونسي سيكون لها تداعياتها على تنظيم الإخوان في مصر والمنطقة العربية، خاصة وأن تيار الإسلام السياسي واجه خلال السنوات الأخيرة ضغوطاً غير مسبوقة، تدفعه إلى أن يطور نفسه وأن يفصل بين الدين والدولة.
وهناك بعض المؤشرات إلى وجود تيار قوي داخل جماعة الإخوان أخذ في الصعود نحو اتجاه فصل الدين عن السياسة، مشيراً إلى أن هذا الاتجاه بدأ بتصريحات الغنوشي وأعقبتها تصريحات القيادي الإخواني جمال حشمت، لافتاً إلى أن هذا التوجه جاء محاولة من الجماعة لرأب الصدع ولملمة الشمل في ظل وجود انقسامات داخلية.
وضع مختلف
وأكد الدكتور فتحي الشرقاوي، رئيس وحدة الرأي العام في جامعة عين شمس إن وضع الإخوان في مصر يختلف تماماً عن تونس، إذ ليس بمقدور هذه الجماعة أن تخرج الآن وتعلن تغيير منهجها أو أن تتراجع عن نهجها، وذلك لأن تنظيم الإخوان في مصر تم أدراجه في قائمة المنظمات الإرهابية.
وقال: لا أقبل هذه المراجعات من تلك الجماعة بعد الجرائم والأعمال الإرهابية التي ارتكبتها في الوطن، ولذلك أميل إلى أن هذه المراجعات ما هي إلا مناورة، لأن العالم كله بدأ يقف ضد الاتجاهات الإسلامية التي وصمت في العالم كله بالإرهاب، وأتوقع أنها محاولة لتهدئة الرأي العام وإيجاد مشهد على المسرح.
ورحب الدكتور أحمد محمود كريمة، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، بإعلان الغنوشي، وقال إن هذا التوجه يعجل بقرب الإعلان عن خطوة مماثلة داخل صفوف جماعة الإخوان المسلمين في مصر، ويؤكد ذلك تصريحات عدد من قيادات الجماعة بالخارج حول سعيها لإجراء مراجعات كبرى لممارساتها وما ارتكبته في حق المجتمع والدولة المصرية، وأن هذه الخطوة تمثل اعترافاً بفشل توظيف الدين لخدمة السياسة. وأضاف أن المراجعة لأي تنظيم، سياسي أو ديني، عادة ما تكون نتيجة فشل أو هزيمة في مجال العمل الديني والسياسي.
وأكد كريمة على أن المراجعات خطوة تأخرت كثيراً، لكنها حتمية وواجبة للحفاظ على أمن المجتمع ومنع الأفراد من الانجراف نحو الفكر التكفيري العنيف الذي انتهجته الجماعة في الفترة الماضية، مشدداً على أهمية أن تكون المراجعة شاملة للفكر والممارسة على السواء.
وأشار الشيخ عادل أبو العباس، عضو لجنة الفتوى بالأزهر الشريف، إلى أن مصطلح الإسلام السياسي يوضع في غير موضعه، فالإسلام دين ومنهج حياة، وإطلاق هذه التسمية لا يعرف في تاريخنا على مدى القرون السابقة، وإنما هو مصطلح، يهدف إلى الإساءة للإسلام.
وأضاف السياسة أصبحت فناً وعلماً لها المتخصص فيها وفي علومها، وعندما تستغل السياسة الدين في مآربها الخاصة فالساسة آثمون، وعندما يستغل المتدين الدين من أجل مآرب سياسية فهو أشد إثماً.
وقالت الدكتور هدى عبد الحميد رئيس قسم الفقه بجامعة الأزهر: إننا أمام تحول درامي في مسيرة حركات الإسلام السياسي، ولكننا لا بد أن نراجع تاريخ تلك الحركات الذي يؤكد لنا أنها تسعى في أوقات الضعف إلى الانغلاق على نفسها، ولكنها تظل في تواصل تام مع كل أعضائها، فكثيراً ما تخيل الجميع أنهم اختفوا من الساحة تماماً وأن أعضاءها تركوها لنفاجأ في النهاية بأنهم ما زالوا مترابطين.
والجديد هذه المرة هو ترويجهم لفكرة أنهم تخلوا عن مشروع الحكم الديني وفكرة الخلافة وغيرها من الأفكار التي انطلقت منها الجماعات الإرهابية في الفترة الأخيرة وعاثوا بسببها فساداً في العالم كله ولهذا فنحن نأمل أن يكون ما فعله الإخوان في تونس هو بداية لتخلي كافة التيارات الدينية السياسية عن فكرها الانغلاقي.
سقوط ورقة التوت
يقول د. المعز الوهايبي: يذهب معظم التّونسيين إلى أنّ حركة النّهضة لم تفعل في واقع الأمر غير أن قدّمت خطاباً ييسّر عليها المرور من عنق الزجاجة لا تونسيّاً فقط، وإنّما إقليمياً ودولياً، خاصّة بعد أن سقطت ورقة التّوت عن الآلة الإخوانيّة التي أوشكت أن تودي بالعالَم كلّه. ولا يعني ذلك أنّه لا توجد خلافات تشقّ حركة النّهضة في ما يتعلّق بقرار الفصل بين الدّعويّ والسّياسيّ؛ فحجّة كثير من قيادات النّهضة أنّ هذا الفصل من شأنه أن يضعف أسانيد النّهضة المتذرّعة بكونها تصدر في رؤيتها لتونس ولغيرها عن التّقويم الدّينيّ؛ وعليه فإنّ هذا الفصل يبتر أسانيدها. في حين يقدّم الشّقّ الآخر المنضوي إلى جناح الغنّوشي تأويلاً «ماكراً» مفاده أنّ هذا القرار لا يتضمّن التّخلّي عن الدّعويّ، وإنّما هو تمييز بينهما.
وقال: إنّ هذا الفصل ليس انقلاباً على الإرث الإخوانيّ لحركة النّهضة الذي اعتنقته وكرّسته منذ أن كانت تحمل اسم «حركة الاتّجاه الإسلاميّ» في بداية الثّمانينات من القرن الماضي، وإنّما هو مجرّد إعادة ترتيب للأوراق.
تغليب الأوطان على الجماعات
أكد الدكتور كمال حبيب، الخبير في شؤون الحركات الإسلامية، أن ما قامت به حركة النهضة التونسية سيكون له تأثير كبير وضخم على الحركات الإسلامية، وخاصة الإخوان في مصر والعالم العربي، بدليل أن القيادي الإخواني عمرو دراج كتب مقالاً عن فصل الدعوة عن السياسة، وكذلك جمال حشمت، وهو التأثير الذي سيرتبط أيضاً بأمور أخرى،وكذلك مسألة تغليب الأوطان على الجماعات الواقعة خارج الحدود.
وقال: أهم المراجعات والتغييرات التي يمكن أن تحدثها الجماعة في مصر، هي مسألة العنف واستخدامه في الحياة السياسية وبشكل عام، لافتاً إلى أن الإخوان وإن كانوا في الستينيات قد واجهوا مشكلة التكفير وأصدروا كتاب «دعاة لا قضاة»، فإن العنف بقي ولم يعالجه أحد وأصبح هناك تأويل عنيف لنصوص حسن البنا، ما يتطلب منهم مراجعة هذه المسألة وإعلان موقف واضح من العنف ليس في بيان، وإنما في فكر تأسيسي علمي .
وأضاف: عليهم إظهار موقفهم من الأوطان، وهل هي فكرة الخلافة الإسلامية التي تجمع كل المسلمين أم أنها الدولة المصرية التي يجب إصلاحها ونهضتها، وذلك على أن يكون مشروعهم خاصاً بمصر وحدها وليس بكل الأمة الإسلامية.
في مرمى النيران
وأكد الدكتور حسن أبو طالب الخبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية أننا نتمنى أن يكون قرار راشد الغنوشي ومن معه في تنظيم الإخوان فرع تونس قراراً حقيقياً وليس التفافاً على الأزمة التي وجدوا أنفسهم فيها في الفترة الأخيرة بعد تصاعد الأعمال الإرهابية في العالم كله من قبل التنظيمات الإرهابية التي خرجت من قلب التنظيمات المتلحفة بالدين.
وأضاف: في رأيي الشخصي سيرفض الإخوان التبرؤ نهائياً من الجماعات الإرهابية لأن القاعدة تقول إن التنظيمات السياسية المتلحفة بالدين ترى أن الفصل بين الدين والسياسة مستحيل لأنه مبني على عقيدة دينية راسخة ، وهم فقط يعيشون حالة من حالات الضعف وكان أمامهم خياران، الأول، الاختفاء تماماً والنزول تحت الأرض مثلما هو الحال مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر أو الفصل الصوري بهذا الشكل العبثي خاصة بعد ما حدث في الأردن وقيام الحكومة الأردنية بحل فرع الجماعة هناك ،حيث أيقن إخوان تونس أنهم أصبحوا في مرمى نيران العالم العربي.
مستبدون لا يحبون غيرهم
قال الدكتور محمد زكي البداري أمين اللجنة العالمية للدعوة الإسلامية بالأزهر: إن قضية الفصل بين الدين والسياسة التي يروج لها فرع تنظيم الإخوان المسلمين في تونس ما هي إلا مناورة الهدف منها الحفاظ على التنظيم بعد أن اكتشف العالم كله تلاعبه بمشاعر الناس باسم الدين، ولكن التجربة علمتنا في السابق أن التنظيم الإخواني يميل في اعتقاده إلى عدم الفصل بين السياسي والديني، فهم يعتبرون أن الفصل بين الدعوي والسياسي يعني الاتجاه نحو العلمانية وهو أمر مرفوض تماماً عندهم.
وأشار إلى أن الجماعات المتلحفة بالإسلام السياسي وجدوا أنهم في مازق شديد بعد أن اكتشفوا أنهم الرحم التي خرجت منها كل الجماعات الإرهابية فقرروا المناورة والخروج من الأزمة ،والحقيقة أنهم فشلوا في التصرف وفق رؤية الشريعة الإسلامية للديمقراطية والشوري، وهو ما حدث مع جماعة الإخوان بمصر، ولهذا فشلت التجربة وخلفت وراءها قلقاً مزمناً من دخول أي تيار إسلامي المعترك السياسي، وثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن جماعات الإسلام السياسي تضم قوماً إقصائيين لا يحبون غيرهم ولا يرغبون في بقائه على الساحة، كما أنهم مستبدون ولهذا، فإن تغيير وجهتهم السياسية هي مجرد مناورة.
المصدر: الإتحاد