نائب لبناني
الصورة الأولى: الرئيس المصري المنتخب جالس وراء مكتبه بعد أن أحدث تغييرات شكلية دينية المضمون، وضع القرآن الكريم على طاولته في شكل ظاهر وخلفه لوحتان لآيات قرآنية أضيفتا إلى الصورة في المكتب الرئاسي.
لماذا يحتاج رئيس مصر إلى رمزية القرآن الكريم بهذا الوضوح الهندسي وخلفه آيات قرآنية ليثبت أن مصر دولة إسلامية في غالبيتها العظمى عددياً وفي دورها الرائد التاريخي في الاسلام؟
الحقيقة أن الرئيس محمد مرسي أراد أن يربط صورته بالمقدّس، متجاهلاً عن عمد أنّ الدين لا يحتمل إقحامه في مسار الأكثرية والاقلية الذي يتحكم بانتخاب الرئيس، ففي ذلك إفسادٌ للدين وتخريب للدولة معاً، وإخضاع كليهما لأهواء الحزب الحالم بأن يكون حاكماً.
الصورة الثانية: وهي الاهم، المؤتمر الصحافي الذي عقده المرشد العام للإخوان المسلمين الدكتور محمد بديع محاطاً بأركانه واقفين وكأنهم حرس الإله الفرعوني.
استطاع بديع ان يقسّم الشعب المصري الى شعبين بأسرع ما يمكن أي حزب حاكم بأن يكون حزباً حاكماً أن يفعل.
بكل بساطة قال: 40 أو 50 مليوناً يؤيدون الاخوان، والملايين الثلاثون الباقية على الاقل متخلية عن وطنيتها ومنفصلة عن الثورة التي يدّعي المرشد العام ان حزبه وحده قام بها.
وعلى ايقاع الوعيد والتهديد اعتبر بديع أن من انتخب الفريق أحمد شفيق الذي نال 49 في المئة من أصوات الناخبين، من الأشرار، وأن محمد البرادعي دمرّ العراق اثناء رئاسته الوكالة الدولية الطاقة الذرية ولم يعش في مصر وبالتالي لا يملك حق التعبير عن آراء المصريين. ولم تشفع عروبة عمرو موسى ولا ناصرية حمدين صباحي لهما عند المرشد العام.
يستند المرشد العام في عليائه الكلامي الى ثلاثة عناصر.
العنصر الأول: هي كلمة الشورى التي يترتب عليها بروز قوى مستقلة عن الشعب ومتعالية عليه كمساهم في كتابة الدستور وهي صيغة مستقاة من التجربة الإيرانية التي وضعت أسسها الدستورية أيام الراحل الإمام الخميني وتعتمد على هيئات أو أسماء مختارة من السلطة بدل أن تكون منتخبة من جانب الشعب وممثلة لمختلف اتجاهاته ومكوناته، مما يفتح الباب واسعاً امام ولاية دينية على أهل السنّة للمسلمين تشبّهها بمثيلتها في ايران، أي ولاية الفقيه المختلف حولها والمسبّبة للكثير من الاضطرابات السياسية بين المجتهدين من المسلمين الشيعة والانشقاقات المذهبية داخل المجتمعات العربية.
صحيح أن شيخ الأزهر الحالي يتمتع باحترام كبير وبصدقية وطنية عند الغالبية العظمى من المصريين. لكن النص الوارد في الدستور بشأن الأزهر لا يستند الى الشيخ الموجود الآن في سدّة الأزهر الشريف، بل يراد من النص افتعال استقلالية مبالغ بها تحت عنوان «الإسلام هو دين الدولة»، بمادة أساسية كاملة (المادة الرابعة) فجعلته هيئة إسلامية مستقلة، أي أنها متصلة بالأمة الإسلامية بما يتجاوز حدود الدولة وسلطتها وقوانينها، وربما تعلوها مكانة وقدرة ونفوذاً، وهي معصومة من القوانين العامة باستقلالها في خلط واضح بين الدستور والعقيدة الذي لا نجده في الدساتير عموماً.
العنصر الثاني: هو الجيش الذي حظي بحماية دستورية لم يسبق لها مثيل، وهي، وفق تقرير معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، عبارة عن «صفقة واضحة بين الرئيس وحزبه من جهة وضباط الجيش من جهة أخرى، لضمان إقرار مسودة الدستور».
يمنح الدستور الجديد استقلالاً ذاتياً نسبياً للجيش، فالمادة 195 تنص على أن وزير الدفاع هو القائد العام للقوات المسلحة، و «يعيّن من بين ضباطها»، وبالتالي يجنب القوات المسلحة الرقابة المدنية (البرلمانية).
وكذلك تنص المادة 197 على إنشاء «مجلس الدفاع الوطني» لمناقشة موازنة القوات المسلحة، يغلب عليه العسكريون، وينكفئون فيه وبه على سياستهم ومصالحهم وموازنتهم، المحجوبة عن الشعب ونوابه ومراقبة إدارته وقضائه المالي. والمعلوم أن للجيش مرافق اقتصادية واستثمارية تساهم بما يوازي عشرين في المئة من مجمل الناتج القومي.
العنصر الثالث: وفق المرشد العام هو استغرابه الشديد أن الازمة السياسية – الدستورية جاءت في الوقت الذي انهالت فيه مكالمات التهنئة الدولية – وهو بالطبع يقصد الاتصالات الاميركية – على الرئيس لدوره في تحقيق وقف اطلاق النار في قطاع غزة بين الفلسطينيين والاسرائيليين. يضمر المرشد العام في كلامه ما نقله لي مسؤول عربي عن عصام حداد مستشار الرئيس للشؤون الخارجية من أن اتصالاتهم بالادارة الاميركية مستمرة وودية وعميقة مستهجناً تحرّك الشعب المصري وقياداته التي يفترض انها تلتزم بالسياسة الاميركية في وجه قرارات الرئيس السياسية والدستورية.
الصورة الثالثة: وهي فولكلورية نسبياً وتتمثل في دعوة وزير الدفاع الى لقاء اجتماعي في احد مقارّ القوات المسلحة يحضره رئيس الجمهورية وحكومته وزعماء المعارضة وإعلاميون. وبعد ارتباك بين رفض الرئاسة لدعوة عنوانها الحوار السياسي وقبولها بعد تجميلها بعنوان التواصل الاجتماعي تلغى الدعوة التي كشفت مدى الانقسام الحاد الذي حققه الحزب الحالم بأن يكون حزباً حاكماً بين شعب الحزب والشعب المصري، مما وضع الرئيس المنتخب أمام حقيقة فقد صفة الجامع الوطني للشعب المصري في زمن قياسي لا يتعدى الاشهر الثلاثة.
بغض النظر عن نتائج الاستفتاء، فإن النتائج الأولى للمواجهة هي ظهور الفارق في أذهان العامة بين الإسلام والإسلام السياسي، والفارق بين الانتماء الديني والهوية السياسية الجامعة. وبهذا يربح الإسلاميون الدستور مثلاً ولكنهم سيخسرون قدرتهم على التفاهم مع المجتمع، بل يمكن التعويل على الأزمة إيجابياً بوصفها استئنافاً لمعركة عصر النهضة، معركة الإصلاح الديني المؤجل منذ ذلك الحين.
افترض ان المستقبل لثبات انقسام في المجتمع بحدة لا حسم فيه، قد يكون أسوأ من الانقسام اللبناني بين 8 و14 آذار أو نظيراً له، حيث ينتصب الافتراق الكبير بين شطرين أو مجموعتين شعبيتين مؤدلجتين ولدى كل منهما نظام قيم مضاد للآخر.
وهذا سيؤدي الى طحن قدرة النظام الاخواني على تلبية حاجات الشعب المصرية الملحّة وستستنزف فيه حيوية المعارضة على القيام بحركة دائمة وفعّالة من دون التسبّب بفوضى.
كلاهما لن ينجح. لا الحكم الاخواني في الانجاز ولا المعارضة بالاستمرار سلمياً من دون الوقوع في فخ الفوضى الذي ستنصبه لها الاجهزة السلفية والاخوانية.
وإذا كان للبناني أن يقول عبارة في النزاع السياسي – الدستوري، المندلع اليوم في مصر، فهي عبارة: الميثاق الوطني. المنبثق أولاً من الإقرار بسيادة الشعب وولايته العامة، وبتبعية السلطات له بل وصدور هذه السلطات عنه.
المصدر: صحيفة الحياة