مشروع دولة الإمارات الشجاع في استئناف الحضارة

آراء

 شهد العالم في فبراير 2019 الحدث التاريخي الأكبر المتمثل في توقيع وثيقة أبوظبي للأخوة الإنسانية وإعلان مشروع بيت العائلة الإبراهيمية، وقبيل هذا الحدث بيوم أهدى قداسة البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية «ميدالية تذكارية» لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، تحمل على الوجه الأول منها صورة لقاء بين القديس فرنسيس والسلطان الكامل الأيوبي قبل 800 عام، وتحكي الميدالية قصة زيارة القديس فرانسيس إلى مصر وجلوسه في حضرة السلطان، ليبدأ الاثنان شق طريق الحوار، ويصبحا بعدها مثالاً لشجاعة الكبار، ويرسما الطريق للمستقبل.
وبعد قرون مضت على هذا اللقاء وفي ظل الظروف الصعبة التي يمر بها عالمنا، كان لا بد من مبادرة شجاعة تستأنف ما بدأه السلطان والقديس، فكانت أبوظبي التي ارتقت بمفهوم الأخوة، وحررت الأديان من تهمة الكراهية والعداء والتباغض، من خلال وثيقة أبوظبي للأخوة الإنسانية، ثم شاء الله تعالى بعدها أن يختبر العالم بجائحة «كوفيد- 19»، فكانت دولة الإمارات مجدداً هي الأفعال قبل الأقوال، وهي المترجمة الحقيقة لما في وثيقة أبوظبي للأخوة الإنسانية.
دولة الإمارات تواصل استئناف الحضارة
صاحبَ توقيع وثيقة أبوظبي إعلان مشروع بيت العائلة الإبراهيمية، ليكون بمثابة صرح حضاري تقدمه الإمارات للعالم كنموذج للتعايش والتسامح، ويسهم في نزع فتيل الصراع المفتعل بين الأديان، وكمصري وقبطي مسيحي، وابن منطقة الشرق الأوسط، فإني أشعر بالفخر لما تبذله دولة الإمارات من جهود صادقة نحو ترسيخ التعايش والأخوة، أقدر شجاعة قادة هذه الدولة العربية التي فطنت إلى أهمية الأخوة، فهي أول نموذج تنموي عربي اتخذ من مبدأ التآخي منهجاً له، بفضل حكمة وبعد نظر مؤسسها الراحل المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، حكيم العرب، وإخوانه مؤسسي الاتحاد، طيب الله ثراهم.
وهاهم أبناؤه اليوم يسيرون على نهج المؤسس، يقودون بلادهم في دروب متفردة بعيدة عن التعصب والكراهية والانغلاق. فما أحوج العالم كله لتلك الصور الإيجابية ولهذه الأمثلة المشرقة التي تقدمها الإمارات يوماً بعد يوم، وإني لأردد كلما سُئِلت عن البيت الابراهيمي، أن مصر- هي كذلك- موطن التعايش والمحبة والتسامح، نشأت في أحيائها التي يتجاور فيها الجامع مع الكنيسة، وأيقنت بأن الكراهية صناعة دخيلة علينا، ولا مكان لها بيننا.
إن مشروع استئناف الحضارة في منطقتنا العربية يقطع الطريق على المجموعات التي تأخذ شرعيتها من نشر البغضاء، وتتكسب من بث الفرقة والتناحر، ووثيقة أبوظبي للأخوة الإنسانية وبيت العائلة الإبراهيمية صرحان في المشروع الحضاري، لأنهما ينزعان تلك الشرعية الزائفة عن مجموعات الكراهية، ويحضرني هنا قول غوته: إن «الجحود هو شكل من أشكال الضعف.. لم أرَ أبداً رجالاً خيّرين جاحدين». ولا أرى أن مهاجمة التعايش والتسامح إلا تعبيراً عن حالة شائعة من الجحود والتقهقر والعمى ورفض الآخر، وهنا أرى أن «الجحود» هو أدق وصف لهذه الفئة.
فأمام صور الذبح والتفجير والسيارات المفخخة والرايات السوداء، تقدم الإمارات صورة الإسلام الوسطي السمح والمنفتح على الآخر، الإسلام الذي دعا إلى الحوار واللقاء والإعمار، وتتجلى معه صورة المؤمن الواثق من إيمانه ومن ثقافته، فكانت الوثيقة ومشروع البيت الإبراهيمي إعلاناً عالمياً بأنه لا مكان للحروب ولا النزاعات بين الأديان، ووصيةً بحفظ كرامة البشر والحفاظ على خصوصياتهم الثقافية والدينية.
الطريق نحو البيت الإبراهيمي
يروج الجاحدون ممن يهاجمون البيت الإبراهيمي بعض الأكاذيب حول مواقف ضد البيت الإبراهيمي.. وأؤكد أن قداسة البابا فرنسيس يكن تقديراً كبيراً للنموذج الإماراتي في التعايش، وقد عبر عن هذا من خلال اختياره لدولة الإمارات لتوقيع وثيقة الأخوة الإنسانية.. وقال في كلمته قبل توقيع الوثيقة، في 4 فبراير 2019: «هنا، وخلال سنوات قليلة، وبفضل بُعد النظر والحكمة، تحوّلت الصحراء إلى مكان مزدهر ومضياف، الصحراء التي كانت حاجزاً عسيراً ومنيعاً، صارت مكاناً للّقاء بين الثقافات والديانات. لقد ازهرت الصحراء هنا، ليس فقط لأيّام قليلة في السنة، إنما لسنوات كثيرة في المستقبل. إن هذا البلد، الذي تعانقُ فيه الرمالُ ناطحاتَ السحاب، يبقى تقاطعاً مهماً بين الشرق والغرب، بين شمال الأرض وجنوبها، يبقى مكاناً للنمو، حيث المساحات التي لم تكن مأهولة في السابق، تقدّم اليوم فرص عمل لأشخاص من أمم مختلفة».
وأضاف قداسته: «بيد أن النموّ أيضاً له أعداؤه. وإن كانت الفردانية هي عدوّ الأخوّة، أودّ الإشارة إلى أن عائق النموّ هو اللامبالاة، والتي تؤول إلى تحويل الواقع المزهر إلى أرضٍ قاحلة. إن النموّ المنفعيّ البحت، في الحقيقة، لا يوفّر تقدّماً واقعيّاً ومستداماً. فوحده النموّ المتكامل والمتماسك يقدّم مستقبلاً لائقاً بالإنسان. إن اللامبالاة تَحُول دون النظر إلى الجماعة البشريّة، أبعد من نطاق الربح، وإلى الأخ أبعد من نطاق العمل الذي يقوم به. اللامبالاة، في الواقع، لا تنظر إلى الغد، لا تكترث لمستقبل الخليقة، لا تعتني بكرامة الغريب وبمستقبل الأطفال. هنا في الصحراء فُتِحَت دربٌ خصبة للنموّ، تقدّم انطلاقاً من العمل، آمالاً لأشخاص كثيرين ينتمون إلى شعوب وثقافات ومعتقدات مختلفة».
وقد شجع قداسة البابا فرنسيس النموذج الإماراتي واصفاً إياه بأنه «تعايش أخويّ، يرتكز على التربية والعدالة، نموّ بشري، يقوم على التعايش وعلى حقوق الجميع: هذه هي بذور سلامٍ، ينبغي على الديانات أن تُنبِتَها. في هذه المرحلة التاريخية الدقيقة، يقع على عاتق الديانات، ربّما أكثر من أيّ وقت مضى، واجبٌ لا يمكن إرجاؤه بعد اليوم: الإسهام بشكل فاعل في تجريد قلب الإنسان من السلاح. إن سباق التسلّح، وتمديد مناطق النفوذ، والسياسات العدائيّة، على حساب الآخرين، لن تؤدّي أبداً إلى الاستقرار. الحرب لا تولّد سوى البؤس، والأسلحةُ لا تولّد سوى الموت! ليس هناك من بديل آخر: إمّا نبني المستقبل معاً وإلّا فلن يكون هناك مستقبل. لا يمكن للأديان، بشكل خاص، أن تتخلّى عن الواجب المُلحّ في بناء جسور بين الشعوب والثقافات. لقد حان الوقت للأديان أن تبذل ذاتها بشكل فعّال، وبشجاعة وإقدام، ومن دون تظاهر، كي تساعد العائلة البشريّة على إنضاج القدرةِ على المصالحة، ورؤيةٍ ملؤها الرجاء، واتّخاذ مسارات سلام ملموسة».
مغالطات يبطلها فعل الخير
يدور الكثر من اللغط حول وجود بعد سياسي لمشروع البيت الإبراهيمي.. وإنني كشاهد عيان، يتوجب عليّ تبيان أن وثيقة أبوظبي للأخوة الإنسانية ومشروع البيت الإبراهيمي هما مشروعان إنسانيان ثقافيان، لا يقبلان مبدأ تسييس الدين، ونؤكد من ناحية أخرى أن الخلط بين الدين والسياسة هو مرض خطير نسعى جميعاً للتخلص منه. فالبيت الإبراهيمي هو مكان يحترم خصوصية وشعائر وتقاليد كل دين، هو مكان أيضاً للمعرفة والعلم والدراسة والتعمق. وكمسيحي لا أرى في ذلك أي خطر على إيماني المسيحي، بل وأجد صعوبة في فهم منطق الخائفين من معرفة الآخر. فما يضرني أو يضر إيماني المسيحي إن صلى أخي المسلم في جامعه، أو اليهودي في معبده؟
والتنويه على أن توقيع حجر أساس البيت الإبراهيمي قد تم يوم 4 فبراير 2019 مع توقيع وثيقة أبوظبي للأخوة الإنسانية، وفي الوقت ذاته، نرى مواقف دولة الإمارات الداعمة لحق الشعب الفلسطيني في العيش على أرضه بسلام وفي دولته بأمان، ووفق ما أكدته كذلك وثيقة أبوظبي للأخوة الإنسانية، وآمنت بها دولة الإمارات منذ تأسيسها – كانت وما زالت – من أكبر المانحين للأشقاء الفلسطينيين وقضاياهم العادلة، والداعمين لمقدسات المسلمين والمسيحيين على حد سواء، وحقهم في إقامة دولتهم والعيش الكريم على أرضها.
وشخصياً أعتقد أن محاولة الخلط بين الأوراق هي وليدة التخبط وثمرة الجحود بما تقدمه الدول العربية للقضية الفلسطينية، وحصيلة الربط البائس والمفتعل بين ما لا رابط يجمعه سوى الأوهام والمغالطات. ومواقف الإمارات الكريمة تجاه الشعب الفلسطيني وحالياً تجاه الشعبين التركي والسوري لهي خير دليل على إنسانية مواقفها.
كلمة مرئية وشهادة حق متجددة
أود هنا أن أختم بكلمات قداسة البابا التي قالها أثناء حفل افتتاح بيت العائلة الإبراهيمية عبر كلمة مرئية في تسجيل الفيديو، حيث قال: «بفرح كبير نحتفل اليوم بخطوة مهمة أخرى على طريق الأخوة الإنسانية.
في 4 فبراير 2019، وبعد توقيع وثيقة الأخوة الإنسانية، وقعت أنا وأخي الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، وصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، على حجر أساس البيت الإبراهيمي لإعطاء العالم رسالة واضحة: الإيمان بالله يجب ألا يكون أبداً سبباً للعداء والكراهية والتصادم، بل مصدراً للأخوة والسلام. إنه مكان للصلاة حيث يرفع كل مؤمن يديه إلى السماء وحيث يُمارس التعايش في التنوع والاحترام المتبادل بين المؤمنين.
إنها رسالة تشهد على أن الإيمان بالله يجب أن يغذي فقط مشاعر الخير والحوار والاحترام والسلام وليس مشاعر العنف أو المواجهة أو الكراهية أو الحرب… أشكر أبناء زايد على اختيارهم بشجاعة طريق الأخوة وحملهم رايته في جميع أنحاء العالم، وتقديم مثال جيد بالكلمات والأفعال الملموسة… وأتمنى لجميع الناس الذين سيصلون في هذا المكان أن يجدوا السلام والإيمان والنور والمحبة».
المصدر: الاتحاد