إعلامي وكاتب اقتصادي
من حسن حظ المصارف السعودية أنها تنام وتستيقظ على أنغام النقود التي تتساقط عليها من كل حدب وصوب، ومعظمها حسابات مصرفية جارية وودائع لا يستثمرها الأفراد، فهي تجني من هذه الودائع مبالغ طائلة وتحقق أرباحاً خيالية من دون أي جهد أو تعب أو مشقة، ولهذا دائماً تأتي أرباحها الأعلى في منطقة الشرق الأوسط، ولهذا لا تستغرب، أن يبقى رئيس مجلس إدارة أو مدير عام في منصبه داخل هذه المصارف لأعوام طويلة من دون تغيير، والسبب أنه طالما تحقق هذه المصارف عوائد جيدة وأرباحاً مرتفعة ومخاطر قليلة، فلماذا تصدع رأسها وتستبدل مديريها؟
تشير التقارير المصرفية، إلى أن المصارف حققت أرباحاً وصفت بالتاريخية والاستثنائية والأعلى في تاريخها، إذ بلغت 38 بليون ريال العام الماضي، في مقابل 35 بليوناً في 2012، ولا نريد أن نحسدها على دخلها المرتفع، ولا نريد أن نوقظ مؤسسة النقد المعنية بمراقبتها من سباتها، فعلى رغم هذه الأرباح العالية فمساهمة المصارف تجاه المسؤولية الاجتماعية لا تذكر إطلاقاً، وإن حصل أن ساهمت فهي تكاد «تذلك» وتفضحك في كل مكان، وتريد أن تتكرم وتتصور وتنشر في كل مكان على مساهمتها البسيطة في مشروع أو عمل اجتماعي، فيذهب جل المساهمة في موازنة الإعلان عن تبرع المصرف وتكريمه، فيما يذهب مبلغ بسيط في المساهمة الاجتماعية التي من أجلها، وفي الدول المتقدمة تخصص المصارف من 15 إلى 25 في المئة للمساهمة بالمسؤولية الاجتماعية والتنموية، بينما مصارفنا لا تخصص حتى 2 في المئة من أرباحها للمشاريع المجتمعية.
طبعاً من حق المصارف السعودية أن «تتمغط» وتنتشي، فهي تحقق أرباحاً عالية نتيجة أن 70 في المئة من المتعاملين يفضلون أن تبقى أموالهم هكذا من دون استثمار، أو تشغيل على اعتبار أن أرباحها ربوية، فمعظمها حسابات جارية، ولا يقبل الأفراد على منتجات أخرى، كما أنه لا يوجد أيضاً على الساحة منافسون آخرون لها، فالقروض الشخصية للأفراد مرتبطة بمرتبات المقترضين، لا يمكن أن تتخاذل أو تهرب من أقساطها، وقد تضاعفت 30 مرة خلال 16 عاماً الماضية وبلغت حجم القروض الشخصية إلى أكثر من تريليون ريال، لا تستغربوا من هذه الأرقام، فالقروض الشخصية التي تقدمها المصارف تذهب 90 في المئة لشراء السيارات وبناء وترميم المنازل أو للدراسة وغيرها من المستلزمات، ليس من بينها قروض لمؤسسات صغيرة أو مشاريع تمويلية لشباب الأعمال، لهذا فإنها تعدّ نفسها «عنتراً»، وتريد أن تعمل كل شيء لوحدها، تعطيك قرضاً لتبني وقرضاً لتشتري وقرضاً لتسافر، وهذا ليس خطؤها، إذ وجدت نفسها وحيدة في الساحة في مجال الخدمات المالية، ومؤسسة النقد لم تحاول أن توجد بديلاً أو مساعداً، حتى تكسر الاحتكار، أما بنك الاستثمار الذي يبدو من اسمه أنه مخصص للاستثمار، فهو يعمل بالطريقة ذاتها، إيداع وخدمات عملاء، وأجهزة صراف، وتحويل رواتب.
كان يفترض من الجهات المعنية عن القطاع المالي أن تبادر إلى كسر هذا الاحتكار الذي تمارسه المصارف، وتنشئ مؤسسات مالية متخصصة في مجالات مختلفة وتخفف العبء عن مؤسسات الدولة الداعمة، التي تواجه أزمة الانتظام في القروض سواء أكانت للسكن أم للمشاريع الصغيرة، وسبق أن كتبتُ عن بعض المؤسسات الخيرية التي تقدم مساهمات ودعماً مالياً للمشاريع الناشئة والمتوسطة، على سبيل المثال مشروع «باب رزق جميل»، كما أننا بحاجة إلى مخصصة لقروض الإسكان والبناء، والتعليم، وغيرها من المصارف المخصصة الأخرى، وهذا يكسر أولاً احتكار المصارف للتمويل والقروض، كما أنه يفسح دخول أموال جديدة في مجال القروض المخصص، وخلق منافسة، خصوصاً أن هناك مؤسسات غير مرخصة وأشخاص يقومون بهذا الدور، وهذا للأسف خارج الإطار القانوني ما يتسبب في تورط البعض في عقود أو قروض وهمية يكون سبباً لتمرير أموال غير شرعية إلى قطاع التنمية من طريق غسل الأموال أو تجارة الممنوعات، لهذا فإن مؤسسة النقد والجهات الحكومية معنية بسرعة إنشاء مصارف مخصصة، لا أفرعاً أو أذرع استثمارية للمصارف فلن تجدي نفعاً. قبل أسبوع قرأت تقريراً، نشر في صحيفة الاقتصادية، أشار إلى أن متاجر التجزئة دخلت خط المنافسة مع المصارف في بريطانيا، ويقول التقرير الذي سبب الصداع للمصارف هناك، أنه ما إن ينجح القطاع المصرفي البريطاني في التصدي لمشكلة من المشكلات المتعددة التي يواجهها، إلا ويصطدم بأخرى أكثر خطورة منها، وما إن يفلح في التغلب على تحدٍ من التحديات التي برزت منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية، إلا ويفاجأ بتطور اقتصادي جديد يمثل خطورة عليه. وبحسب التقرير فإن آخر تلك التحديات، هو أن سلسلة متاجر التجزئة الكبرى، تطرح نفسها الآن منافساً قوياً للمصارف، بل يعتقد البعض أنها في طريقها إلى أن تقدم نمطاً غير تقليدي من المؤسسات المالية، التي تقدم لعملائها خدمات من قبيل الإقراض وفتح حساب جارٍ.
فالسوبر ماركت لم تعد بالنسبة لملايين من المواطنين البريطانيين مركزاً للتسوق، والتبضع وشراء المواد الغذائية والسلع المنزلية، أو حتى الأدوات الإلكترونية، بل أضحت بديلاً مقبولاً عن المصارف، فسلسلة متاجر «تيسكو» أكبر سلسلة محال تجزئة في بريطانيا يتبضع منها نحو 17 مليون مواطن، قررت أن تمنح عملاءها خصومات على مشترياتهم، إذا ما قاموا بفتح حساب جارٍ لديها. ولحقتها سلسلة «ماركس آند سبنسر» الشهيرة التي سارت أيضاً على هذا الدرب، ويتوقع أن يلحق آخرون بهذا الاتجاه الجديد في عالم المال. يقول وليم روجر المدير التنفيذي لسلسلة تيسكو إن الربح باختصار هو العامل المحرك للمضي قدماً في هذا الاتجاه، مضيفاً أن كل الدراسات التي قمنا بها تشير إلى استعداد قطاعات كبيرة من المواطنين لقبول تلك الفكرة، بأن تكون كل متطلباته تحت سقف واحد، وأن يقوم بشراء حاجاته المنزلية ودفع فواتيره المنزلية، وإجراء تحويلاته المالية في السوبر ماركت. بالطبع هناك تجارب ومدارس مختلفة، ولا يمكن أن نبقى هكذا تحت رحمة المصارف، ولابد من أن نوجد منافسين حقيقيين حتى تنعش سوق المال وتخلق منافسة شرسة، وإلا فمع مرور الزمن ستتحول هذه المصارف إلى فنادق 7 نجوم لموظفيها.
المصدر: الحياة