كاتب سعودي ويشغل حالياً منصب مدير قناة "العرب" الإخبارية
أمضيت يومين في القاهرة، قابلتُ وتحدثت خلالهما مع بضعة عشر صديقاً. مصر لا تزال كما هي، بكل مشكلاتها القديمة المتوارَثة التي عرفها كل عربي يعرج عليها بين حين وآخر. لا شيء في المطار يشير إلى أن مصر يحكمها «الإخوان المسلمون» أو أن ثورة مرت بها، اللهم غير موظفة الجوازات التي تنهي إجراءات الدخول بسرعة، فلا ترسلك إلى كرسي مهترئ تنتظر قرار ضابط أمن الدولة، الذي يجلس خلفها وراء زجاج عازل، الذي يبحث عن اسمك في قوائم الممنوعين أو المطلوبين. لقد اختفى هذا الضابط.
مصر لا تتغير بسرعة، ولا تتوقف فيها الحياة، حملت كل المشكلات التي صنعها الرئيس المخلوع مبارك أو ورثها وعجز، أو لم يهتم بحلها، وألقت بها أمام الرئيس الجديد المنتخب محمد مرسي لتحمِّله مسؤوليتها، ولكنها باتت قوية، فـ «تشخط» في الرئيس وهي تقدم مطالبها. في الماضي كانت تلمح لمن سبقه بالنكتة والمقالة والتعليق والرسم، أما الرئيس مرسي فنصيبه كل ما سبق… إضافة إلى «الشخط».
كثيرون يقولون إن مرسي ضعيف، وكذلك رئيس وزرائه، والحق أنهما ليسا كذلك، لكن شعب مصر هو الذي أصبح قوياً. لو لم تكن الثورة، وكان هشام قنديل صديقاً لنجل مبارك، لصعّده إلى منصبه الحالي رئيساً لمجلس الوزراء. حينها كانت «الأهرام» لتخرج بمانشيت «إنه زمن الشباب»، أما اليوم فإن نصيبه حساب إعلامي عسير، وهذه وظيفة الإعلام، فمشكلات مصر كثيرة، وتستحق اهتماماً موضوعياً، وإن كان الإعلام المصري لا يزال يفتقده وهو يجرب الحرية الكاملة، ما أغرقه في شخصنة القضايا.
وكأن المصريين يهربون من قضاياهم الحقيقية ليغرقوا في خصامات شخصية، وجدل بيزنطي حول تفاصيل تفاصيل الدستور، الذي رغم أنه أُقر في استفتاء حر، إلا أنهم لا يزالون يخاصمون بعضهم بعضاً عليه. بعضهم مشغول بتحليل الأرقام لإثبات أن «الإخوان» والسلفيين خسروا شريحة كبيرة من قاعدتهم التصويتية، ومن الواضح أنهم مشغولون أكثر بمن سيفوز في الانتخابات المقبلة. القضية الأهم لا تزال «الحكم»، ما يعني أن المعارضة لم تقبل بعدُ نتائج انتخابات الرئاسة ولا الاستفتاء الأخير ولا ما سبقهما من انتخابات أثبتت تقدم التيار الإسلامي، وهي معضلة حقيقية، فحالة الإنكار هذه ستقود في النهاية إما إلى تعطيل الحياة السياسية إذا استمر التصادم الحاد بين التيارات، وهو ما تراجعت احتمالاته بعدما فقدت المعارضة زخمها، وإما إلى تفرد «الإخوان» وحلفائهم بالحكم، وهذا ما لن ينفع مصر ولا «الإخوان»، وسيُضعف القوى المدنية ويزيد في تشرذمها.
المعارض لـ «الإخوان» يقول إنهم فقدوا شباب الثورة والقضاء والأحزاب المدنية والأقباط، وربما يكون ذلك صحيحاً، لكنه يظل بالتأكيد أقل تأثيراً من خسارتهم فريقاً من رجال الأعمال، فالذين سَلَفَ ذكرهم فقدوا قوتهم في الشارع، وبعضهم لم يكونوا أصدقاء لـ «الإخوان» منذ البداية، أما فئة رجال الأعمال، فهي المهمة، لأن قوتها في المصارف والمصانع، حيث ساحة «الإخوان» الحقيقية ومعركتهم المقبلة، لكن ثمة فجوة هائلة بين الطرفين، وعلاقة معقدة، وثقة مفقودة، فرجال الأعمال (الليبراليون) تحالفوا مع المعارضة المدنية من خلال صحفهم وتلفزيوناتهم، التي لا تزال تكيل للحكومة و «الإخوان» شتى أنواع الاتهامات، وتفرض عليهم أجندتهم ومواضيعهم البعيدة من أجندة «الإخوان». هناك من يعتقد أن موقفهم هذا تكتيكي وليس مبدئياً، حيث إنهم انقسموا في الانتخابات الرئاسية، وصوتت شريحة كبيرة منهم للرئيس مرسي، وتشعر أن ثمة أملاً في التعاون معه، مراهنة على نزعة «الإخوان» الرأسمالية القوية… لكن الطرفين بحاجة لمن يسعى بينهما بالخير لبناء الثقة المفقودة، فقد صرّح رجل أعمال قوي وشريك في صحيفة «معارضة» مؤثرة في حديث خاص: «بيننا من ينتشي كلما بلغه خبر تدني رقم الاحتياط من العملة الأجنبية، لأنه يريد أن يُفشل الإخوان، وبينهم من يفرح كلما سمع برجل أعمال يغادر مصر ويقول يروح في داهية… وبين هذا وذاك تضيع مصر». رجل أعمال آخر يؤمن بأن الرئيس والحكومة يحابيان رجال الأعمال «الإخوان» على حسابهم.
«الإخوان» من جهتهم، يرون الإعلام الذي يسيطر عليه رجال الأعمال عدواً لهم، وبالتالي فهم جزء من المؤامرة عليهم، وجزء من النظام القديم، وبعضهم لا يزال متحالفاً معه. رجل الأعمال السابق يعترف بالدور السلبي للإعلام، ومستعد أن يضغط، على الأقل في صحيفته، لتغيير ذلك، ولكنه يرى أن ثمة حاجة لمصالحة وطنية بين رجال الأعمال و «الإخوان»: «في عهد مبارك كنا نعمل وفق قواعد ذلك العهد، وليس صحيحاً أن معظم رجال الأعمال كانوا شركاء باختيارهم وسعداء بذلك، العمل وقتها كان مُكلِفاً، وبالأرقام، ولم يكن بدٌّ من أن تدفع هنا وهناك كي تعمل. نحن بالطبع نرحب ببيئة عمل نظيفة، فنحن جزء من الثورة ونزلنا ميدان التحرير».
رجل أعمال آخر يرفض اتهامَ من يحوِّل ماله للخارج أو يشتري عقاراً في دبي أو الولايات المتحدة بأنه معادٍ للحكومة: «إنه يبحث عن الأمان فقط، لا تلمه، كل 5 دقائق نتلقى تهديدات بالتحويل إلى النيابة والتحقيق بالكسب غير المشروع». تبرَّعَ آخر بذكر أسماء مديرين في مصارف وشركات كانوا يتلقون رواتب مرتفعة فجُمِّدت حساباتهم ويجري التحقيق معهم، وآخر يبيع شركات له في مصر شاركت بالحديث عن تجارب سلبية مماثلة بعد الثورة لمستثمرين سعوديين.
ولكن كيف يستطيع «الإخوان» أن يعقدوا صفقة مع رجال الأعمال والصحافة تخلق أجواء ملاحقة «حرامية المال العام»؟ أزعم أنه إذا أعيد بناء جسر الثقة من جديد بينهما يمكن ذلك، ويمكن أيضاً التأثير في اتجاه الإعلام، فالبداية أن يؤمِن الطرفان بأنهما في مركب واحد يمكن أن يغرقهما معاً، ويُغرق معهما أثمن ما يملكان… مصر.
ربّ ضارة نافعة، فإعلان خفض التصنيف الائتماني لمصر إلى حد سلبي خطر بعد نهاية معركة الاستفتاء التي قسمت الشارع المصري، هدّأ كثيراً من النفوس المتوترة، ولا يزال البعض مصراً على تحميل الرئيس وحكومته وحزبه كامل المسؤولية، ولكنْ ثمة أصوات أخرى بدأت تتحدث عن الحاجة إلى التهدئة والعمل المشترك لبناء مصر جديدة، فمشكلات مصر صعبة على أي حكومة، فكيف بحكومة منتخبة في ديموقراطية وليدة؟ لذلك أقول إن مصر لا تزال بخير، إذا اتفق الإخوان «الرأسماليون» مع قطاع الأعمال.
المصدر: صحيفة الحياة