تحاول الولايات المتحدة، منذ انطلاق «الربيع العربي» وقبل أن يصبح مأساة، استيعاب التحولات التي أفرزها ويفرزها، خصوصاً أن الذين أطاحهم كانوا حلفاءها منذ عشرات السنين، وكانت تعول عليهم في حماية مصالحها، ومواجهة أعدائها وخصومها. الرئيس حسني مبارك، على سبيل المثال، حافظ على «حياد» مصر في الصراع الذي كان عربياً إسرائيلياً طوال فترة حكمه المديدة. في هذه المرحلة شهد العالم العربي احتلال إسرائيل لبنان وانسحابها منه عام 2000، ثم احتلال العراق عام 2003، والحرب على لبنان أيضاً عام 2006، وحروباً صغيرة وانتفاضات، واغتيال الرئيس ياسر عرفات.
وقعت مصر المحيدة عن الصراع في غيبوبة، منذ اتفاقات كامب ديفيد فالحرب التي خاضتها عام 1973 كانت آخر الحروب، على ما أعلن السادات يومها. لم يعد عمقها الأفريقي مهماً. حدثت فيه تحولات خطرة على أمنها الوطني، بدءاً من الصومال إلى ليبيا والسودان، فضلاً عن إثيوبيا ومالي ونيجيريا، وباقي دول حوض النيل. مارست سياسة الانكفاء على الذات، من دون أن يكون لديها هذا الترف، خصوصاً أن النهر العظيم شريان حياتها مهدد بالخطر. أما عمقها في بلاد الشام فتتنازعه قوى دولية وأخرى إقليمية، تعبث بجغرافيته وبمكوناته السكانية، وتخوض فيه حروباً، وترسم مخططات لتجزئته، من دون أن يكون للقاهرة أي دور أو كلمة في ما يجري. أي أن أرض الكنانة أصبحت محاصرة من عمقها الأفريقي والشامي. ولإسرائيل كلمة مسموعة في كل ما يجري.
هذا كان واقع مصر قبل 30 يونيو: دولة تعتمد على مساعدات تتوزعها الطبقة الحاكمة، فيما معظم الشعب يغرق في الفقر والبطالة. دولة تتجاهل العاصفة وهي في عينها. ما أتاح لدول صغيرة أن تحاول لعب دورها في الشرق الأوسط وفرض سياساتها عليها، مقابل بعض الهبات.
بعد «الربيع» حاولت الولايات المتحدة احتواء التحولات وإبقاءها في موقعها، من خلال التفاهم مع «الإخوان المسلمين» الذين وصلوا إلى السلطة، وحاولوا المزايدة على سياسات النظام السابق من اليوم الأول، فأعلن الرئيس محمد مرسي المحافظة على اتفاقات كامب ديفيد، ونسق مع الإسرائيليين في سيناء. وجذب حركة «حماس» إلى «معسكر الاعتدال». ودعا إلى الجهاد في سورية، ووقف ضد إيران من دون أن يأخذ في الاعتبار التحولات السياسية. هذه المواقف أرضت الولايات المتحدة، لكنها لم ترض الشعب والجيش، خصوصاً أن الرئيس كان يسعى إلى أخونة الدولة، فأفاد الجيش من النقمة الشعبية وعزله.
استاءت الولايات المتحدة من حركة الجيش الذي تعتبر تحالفها معه أساسياً في بقاء مصر حليفتها في الشرق الأوسط. وراحت تسعى إلى إعادة مرسي إلى سدة الحكم، بوساطة أوروبية قادتها كاثرين أشتون. وعندما وجدت ذلك مستحيلاً لجأت إلى معاقبة القاهرة فخفضت بضع مئات من ملايين الدولارات، مهددة بوقفها كلها إذا استمر الجيش على موقفه من مرسي ومن «الإخوان»، وقد رهنت استمرار هذه المساعدات بمدى تطبيق «الديموقراطية».
واقع الأمر أن واشنطن الآن في مرحلة تحول في سياستها الشرق أوسطية، إذ تراجعت عن ضرب سورية، وعلى وشك الاعتراف بنفوذ إيران في المنطقة. هذا الواقع الجديد يتطلب من القاهرة سياسة جديدة مختلفة عن سياسة السادات ومبارك وعن تجربة «الإخوان». جميع هؤلاء رهن موقع مصر وحجمها وتأثيرها ببضعة بلايين من الدولارات كانت تذهب إلى جيوب القلة وإلى الشركات الأميركية التي تهتم بصيانة المساعدات العسكرية، فضلاً عن أنها لا تساوي شيئاً إذا قيست بالموازنة المصرية. كانت مساعدة «رمزية» أتاحت لواشنطن التحكم بسياسات العهود السابقة. وها هي تخفضها في عملية ابتزاز واضحة.
قد تمر سنوات قبل أن تستعيد مصر موقعها لكنها بدأت خطوتها الأولى في هذا الاتجاه. وقد تخضع لمزيد من الضغوط من حارس الديموقراطيات في العالم.